إن الاعتقاد السائد في وقتنا الحاضر هو أن المرأة الجزائرية لم تساهم في إنتاج تراثنا الثقافي وهذا رأي خاطئ يشيعه المتزمتون الذين يجهلون تاريخنا الوطني ورموزه الحية في ذاكرتنا، وحتى كتاب التراجم لم يصححوا هذه النظرة المشوهة في حياتنا العامة، فلا نعثر على ترجمة أية امرأة في "تعريف الخلف رجال السلف" لأبي القاسم الحفناوي، ولا في "أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة" للمؤرخ يحيى بوعزيز، أما في "معجم مشاهير المغاربة" الصادر 1995، والذي سهر على إنجازه باحثون أكاديميون فلا نجد فيه إلا ترجمة شخصية المقاومة فاطمة نسومر . وتوجد اليوم عدة أماكن تدل على مكانة المرأة في ذاكرتنا الجماعية وهي معروفة بأسماء نساء شهيرات، أذكر منها: لالة مغنية، وصفيصيفة (ولاية النعامة)، ولالة خديجة، ولالة ستي. كما كان الرجل ينسب إلى أمه أو مربيته، ولا يرى الناس في ذلك حرجا، وعلى سبيل المثال أذكر "لالة صفية" التي ينسب إليها سيدي يحيى (بن صفية) بولاية تلمسان، وسيدي أمحمد الذي عُرف بكنية لها علاقة روحية بمربيته ومدرسته السيدة عودة فاشتهر باسم (ابن عودة). وكانت المرأة تشتغل في جميع المجالات والحقول التي مارسها الرجل منها التصوف (لالة تركية، ولالة زينب)، والتدريس (لالة عودة)، والمقاومة (لالة فاطمة نسومر)، والشعر والمدح (زهرة الغليزانية). وتعد لالة عودة (أمّنا عودة كما يناديها سكان المنطقة) من النخبة العالمة، وقد ذاع صيتها بالمنطقة الشلفية وضواحيها، باعتبارها مدرسة ملمة بالفقه المالكي والعلوم الدينية، تصدت للتدريس بزاوية مجاجة العلمية التي كان يشرف عليها والدها الشيخ أمحمد بن علي آبهلول المجاجي (945- 1002 ه) الذي ترجم له جل المهتمين بأعلام الجزائر منهم أبو القاسم الحفناوي، وعادل نويهض، وأبو القاسم سعد الله، ويحيى بوعزيز. ولدت لالة عودة المدرسة المثقفة في القرن العاشر الميلادي الهجري الذي برز فيه علماء كبار منهم والدها، وشقيقه الشيخ أبوعلي، وسعيد قدورة الذي رثى مقتل أستاذه الشيخ أمحمد بن علي المجاجي سنة 1002ه بقصيدة تحتوي على أبيات يشير فيها إلى سيرته العلمية. وتحدث الباحث علي بن أحمد بنعشيط المجاجي (م. 1928م) في مؤلفه "الأحرف الوهاجة في ذكر شرفاء مجاجة" عن السيدة عودة فقال عنها الآتي: "أمنا عودة كانت تدرس بزاوية أبيها في مجاجة ثم ذهبت إلى مكةالمكرمة وماتت هناك ولم تخلف." كما كتب هذا الباحث عن علاقتها الروحية بتلميذها سيدي أمحمد فقال: "ربت ولدا اسمه امحمد بن عودة وعلمته، ومقامه مشهور بنواحي غليزان تقام له الحفلات كل سنة تبركا به وهو لم يتزوج ولم يخلف حسب ما يقال." (ص23). وبعد مقتل الشيخ محمد بن علي، تولى شقيقه العالم أبو علي الإشراف على الزاوية، وكان يساعده الشيخ عبد الرحمن (نجل محمد بن علي المجاجي) والسيدة عودة. أما سيدي أمحمد بن عودة فهو ابن سيدي يحيى دفين بلدية دار بن عبد الله بولاية غليزان، ويعد من أعلام القرن الحادي عشر الهجري وضريحه موجود ببلدية تحمل اسمه بولاية غليزان، وتروى حكاية طريفة عن هذه العلاقة وهي أن خادم زاوية مجاجة عنف الطفل اليتيم الأم المدعو "أمحمد" القادم من قبيلة فليتة (ولاية غليزان) فلامته السيدة عودة على فعلته ولكن الخادم قال لها إن الطفل لا يمت لها بقرابة فدفعها هذا الكلام إلى احتضان اليتيم وقالت لمستمعيها: "اللعنة على من يفرق اسمه عن اسمي." واشتهر بعد تخرجه من زاوية مجاجة بالشيخ بن عودة. حدثنا الشيخ عبد الرحمن بن خروب المجاجي في رحلته إلى المدينةالمنورة عن السيدة عودة التي كانت ضمن وفد الحجيج، وذكر وفاتها بمنطقة المدينةالمنورة ودفنت بمقبرة البقيع، إذ يقول عنها في منظومته: هناك توفت بنتُ شيخ شيوخنا**لها في طريق الخير يا صاح شهرة لها في العمر نقط ضاد ونيفا ** ولا لها شغل فيه غير العبادة وصوامة قوامة طول ليلها ** ودأبها في الأوراد فيه عجوبة وثم اليتامى والأراميل ثم من ** تكون به خصاصة فيقوت وكل عديم في أنام تكفِه ** عن السؤال حتى تعطيه الكفاية وليس لها مثلٌ سوى من تقدمت** في ماضي السنين مثل العدوية عليها رضى الرحمن مني مداوما ** ويسكنها لإله مع خير رفقة نساء النبي الهاشمي محمد ** تكون معهم في قصور علية بعين وواو ثم دال وتاؤها ** فذلك اسمها إذا إذا قلت عودة رحلنا بها يومين من بعد نحبها ** وسرنا بها نحو الديار الشريفة دفناها ليلا بالبقيع وحولها** زوجات البني الهاشمي ذي السكينة ومالك أيضا ثم نافع حولها ** كفى شرفا لها بهذي الفضيلة أما الباحث الفرنسي إدموت دوتي (Edmond DOUTE) فقد أشار في كتابه "الصلحاء" إلى بهائنا الحسن وعلمها الغزير وهيئتها المميزة إذ كانت ترتدي لباس الذكور كالبرنس والسروال العربي (ص71)، وهذا ما أكده لي مشايخ من منطقة الشلف. وتخليدا لجهودها العلمية، بُني لها مقام في زاوية مجاجة وهو يحاذي ضريح والدها، كما أطلق اسم "لالة عودة" على أحد أحياء مدينة الشلف، وكان هذا اسمها منتشرا في المنطقة الشلفية وضواحيها، لكن اليوم وفي زمن العولمة والهيمنة الثقافية النيوكولونالية وغياب الدراسات الميدانية، لم يعد هذا الاسم متداولا في حياتنا الحالية. ولا اعتقد أنه سيسترجع حضوره إلا إذا رممنا ذاكرتنا المصدومة وذلك بالتعرف على شخصياتنا العلمية وإحياء إنجازاتها الخالدة، والاهتمام بدراسات المفكرين في موضوع ما بعد الكولونيالية.