عهد التميمي صبية مشرقة مثل أشعة الشمس بعيون زرقاء وبشعر ذهبي راحل بكل حرية إلى أوسع وأعلى سماء، تحمل الراية الفلسطينية سارية أو نخلة لا تلين ولا تنحني، تقف مثل الجبل، الكوفية لثام والشال الحطة على الكتفين والصدر يجهر بعناده وتحديه. استخسر فيها المحتل الصهيوني بهاءها وجمالها، ولم يستسغ لا قوتها ولا جرأتها ولا شجاعتها ولا تحديها الصارخ، فحاول طمسها وتغييبها بكل الوسائل التي اختلقها، حتى لا تفضح للعالم غطرسته مع طفلة بصفاتها. داهموا البيت واقتحموه في بلدة النبي صالح معتدين على كل من فيه، دمروا وعبثوا وبعثروا واحتجزوا كل الأجهزة ليعتقلوا طفلة بكل عفويتها وبكل براءتها لكن بوعي مدهش استبق سنها بكثير، لا زاد لها إلا ما في عمق القلب والعين من حب لفلسطين، فلسطين الوطن فلسطين حنظلة والتربة والحجر ودم الغائبين، وما خزنت الذاكرة والعين من ملامح لمستعمر بشع وعساكر تصطاد الحلم والأمل وزهرة الأعمار وكل ما هو جميل بين كفي الأقدار المسروقة والمؤجلة. عهد التميمي الطفلة المتميزة والاستثنائية، الأيقونة الفلسطينية التي صنعت الحدث ولا زالت في انتفاضة فلسطين الثالثة، أدهشت العالم وأبكت وأبهرت الكثيرين، سياسيين وإعلاميين وفنانين وكتابا لتصبح شلالا من النور في كل وسائل التواصل الاجتماعي بكل تنوعها. طفلة تحدت الجيش الإسرائيلي بكل قوته وعتاده وترسانته العسكرية بطفولتها وبراءتها وجرأتها منذ أن سجنت أمها وعمرها ثماني سنوات، صرخت وبكت وعيرت وجرت وراء السيارة العسكرية حتى تقطع نفسها ولم تهدأ. كبرت الطفلة قليلا فصرخت وضربت وعضت العساكر ولم تبك أجلت الدمع إلى حين حتى تحمي مع الفتيات الأخريات الشباب الثائر حتى لا تطاله كمائن وأيادي وبنادق الجيش الإسرائيلي، والصور التي أثثت الصحافة العربية والعالمية شاهدة على ذلك. عهد منذ أن كانت في سن الثامنة وهي تصنع الحدث. تحصلت على جائزة حنظلة للشجاعة في تركيا حيث كرمها الرئيس التركي رجب أردوغان لتصبح رمزا للبطولة والتحدي لكل الأجيال. جيش بكامله في وجه طفلة سلاحها وعيها المتقد المكتسب من عائلة مقاومة مناضلة وعريقة في الضفة الغربية وأخ استشهد في مسيرة من مسيرات النبي صالح الأسبوعية. حتى هذه المرة أمها التي سجنت خمس مرات والتي عذبت وجرحت بالرصاص الحي ذهبت لزيارتها في السجن لكنها لم تعد، يعاقبها المستعمر لأنها أنجبت عهد التي هي على العهد حتى تتحرر فلسطين وتتحرر طفولتها من قبضة الظلم والطغيان. طفلة لم تبحث عن الشهرة كما قال والدها الذي سجن وعذب لمرات عدة، ولم تتصدر الأمكنة لتغطي على الآخرين بل الكثيرون مثلها موجودون يوميا وفِي كل شبر من فلسطين، فقط لم تلقطهم العدسة أو لم ينتبه لهم أو أهملهم الإعلام. طفلة كالكثيرين من الأطفال الذين أنجبتهم الانتفاضات المتعاقبة سلاحها ذكاؤها وكفها ولسانها وأسنانها وكمشة من حجر مبارك ونظرات ببعد المدى وعيون مشرعة على الحلم بالرغم مما يحيط بها من غامض ومجهول ومن رماد ومن غاز قاتل. عهد ليست وحدها ولن تكون أبدا وحدها، إذ في كل الثورات التحررية والانتفاضات الشعبية في العالم ولد أطفال من نور يصنعون الحدث حد الاندهاش وحد الارتباك وحد الأسطورة والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى. الشهيدة الجزائرية فاطمة بدار الطالبة التي شاركت في مظاهرات 17 أكتوبر 1961 في فرنسا والتي لم يشفع لها سنها الذي لم يتجاوز 15 سنة آنذاك لتلقي بها الشرطة الفرنسية في نهر السين مثل المئات من الجزائريين، ولم يعثر على جثتها إلا بعد أسبوعين من طرف عمال الصيانة وهي عالقة بقناة من قنوات صرف المياه، الشهيد عمر ياسف المعروف باسم عمر الصغير الذي أستشهد رفقة حسيبة بن بوعلي وعلي لابوانت وحميد بوحميدي سنة 1957 بعد نسف المنزل المختبئين فيه بحي القصبة. والطفلة آن فرانك التي توفيت في معسكر من معسكرات الإعتقال بعد الاحتلال الألماني لهولندا والتي بعد انتهاء الحرب وعودة الأب سالما إلى أمستردام وجد في البيت وفِي مكان سري مذكرات آن والتي نشرها سنة 1947 لتترجم بعدها إلى كل لغات العالم وأيضا زويا كوسموديميانسكايا الطفلة الروسية المناضلة ذات 18 سنة والتي أعدمت شنقا من طرف النازيين الألمان وهي تصدح بكلمتهاالشهيرة وحبل المشنقة في الرقبة وهي محاطة بأهالي قرية بيتريشيفو الذين جمعهم الالمان لحضور عملية اعدامها لترويعهم :" ان عددنا 170 مليوناً ، وليس بوسعكم شنقنا جميعا". الطفل محمد جمال الدرة الذي قتل برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي في الْيَوْمَ الثاني من انتفاضة الأقصى في 30 سبتمبر سنة 2000 ، وعمره 11 سنة فقط ، وفارس عودة 15 عاما رأيناه متحديا دبابة إسرائيلية، في تلك الصورة التي تصدرت مثلها مثل صور محمد الدرة الصفحات الأولى للصحف العربية والعالمية. أين هي مواثيق حقوق الإنسان وأين هي مواثيق حقوق الطفولة. وأين هي المواثيق التي تحمي الطفل وتحمي الآثار من القتل والحروب والدمار. في القلب والعيون يا فلسطين وَيَا طفولة فلسطين الفتية.