بحلول أشهر قليلة يكون محمود درويش قد أتمّ السنة العاشرة لرحيله عن عالمنا، ومعه توقّفت مسيرة شعرية فريدة من نوعها لواحد من أهمّ الأصوات الشعرية التي عرفها أدبنا العربي؛ بل عرفها الأدب والإنسانيّة عامّة. انتهى الزمن التاريخي لهذه المسيرة ولم ينته الزمن الوجوديّ لشاعر رؤية قبل كونه شاعرَ كلمة. مرّ درويش بهذا الزمن المُنهَكِ بالأزمات وترك فيه بصمة أدبية وإنسانية لم يكن لها مثيل. من قرأ لدرويش بعمق وحياد يدرك تماما أنّه أمام شاعر كونيّ قبل أن يكون شاعرا قُطْرِيًّا؛ عربيّا فلسطينيّا. لقد كانت مسيرة درويش الشعرية مسيرة غنية من حيث المضامين، ثرية بسياقاتها وأحداثها التاريخية، غلبت عليها بعض الموضوعات الشعرية مثله مثل باقي الشعراء، ففي مختلف الأزمنة والعصور هناك دائما موضوعات غالبة، ومن يتصفح دواوينه الشعرية يلمس ثراءً وعمقا في طرح المواضيع، فقد تعدّدت القضايا والموضوعات التي تناولها شعريّا، حيث كتب عن الأرض والقضية، وعن السياسة والنضال، وعن الغربة والحنين، وعن المرأة والحبّ، وكتب عن حقوق الإنسان في قصائد مثل "فكّر بغيرك"، وكتب عن كينونته وعن هويته بوصفه إنسانا عربيّا فلسطينيّا حرّا، وكتب عن الذات وعن الآخر المختلِف، كما كتب عن السلام والحرب. ويمكن اختصار هذه المسيرة الشعرية ضمن بُعدين رئيسين: بعد سياسيّ ثوري، وآخر إنسانيّ أمميّ، ولكلّ بُعد مرحلته التي أرَّخت لها سياقات تاريخية محدّدة وتمظهرات فنية مثّلت لكلّ مرحلة وأسهمت في تأسيس هيكل القصيدة الدرويشية عبر مسارات ومنعطفات زمنية مختلفة؛ المرحلة الأولى هي مرحلة الشعر السياسي الموسوم بالنبرة الحماسية الخطابية، والتي تجلّت فيها القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في أبرز صورهما، وقد كان درويش لسان حال قومه وصوت المقاومة الشعري الذي صدح بأشهر قصائده وأكثرها إثارة للحماس لدى الجماهير، متشبّعا أنذاك بقيم الفكر اليساري الذي كان يتبنّى مبادئه، فكانت بواكير دواوينه الشعرية مترجمة بصدقٍ لذلك الحسّ الوطني الثائر، وأخصّ بالذكر هنا ديوانيه "أوراق الزيتون" (1964م) و"عاشق من فلسطين" (1966م) الذَين صدرا بعد ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" (1960م)، والذَين منحاه لاحقا لقب شاعر المقاومة. يقول المفكّر الفلسطيني "إدوارد سعيد" واصفا تلك اللحظة: [عرَّفت قصائد درويش الكفاحية المبكرة بالوجود الفلسطيني، معيدة التأكيد على الهوية بعد شتات 1948، وكان الأوّل في موجة من الشعراء الذين كتبوا من داخل إسرائيل، عندما كانت "غولدا مائير" تصرّ قائلة: لا يوجد فلسطينيون]. أمّا المرحلة الثانية فهي ذات بعد إنسانيّ خالص؛ مرحلة أكثر تميُّزًا وغِنًى شعريين في مسيرته، لا من حيث التحوّلُ في موضوعة الوطن والقضية فقط؛ وإنّما في التجربة الشعرية والإنسانية ذاتها، والتي دفعته إلى تجاوز حدود الراهن السياسي ومحاولة تناول القضية الفلسطينية في بعدها الإنسانيّ العام، والاصطفاف شعريا ووجوديا للانتماء إلى الإنسانية جمعاء. حيث شهدت هذه المرحلة خروجه من الوطن وابتعاده عنه قسريّا، وقد كانت الفترة التي قضاها بلبنان، تحديدا، العامل الفارق في تغيّر ذلك المسار بما صاحبه من أحداث جعلته يغيّر نظرته لاحقا نحو كل ما يحيط به. فهناك ازدادت تجربته عمقا واتّساعا بفضل المناخ المساعد الذي فتح آفاقا أدبية أوسع أمامه، فبدأ نوع آخر من شعره في الظهور كانت القصيدة فيه أقرب إلى لغة النثر، ببناء دراميّ شعريّ أكثر وضوحا وتكثيفا بالرموز والأساطير، ورؤية حداثية لمفهوم الشعر، وبمفردات لغة معاصرة ورموز شعرية جديدة، وقد تجسّد هذا النوع بداية مع "مديح الظلّ العالي"، ثمّ تلته دواوين أخرى، ليأتيَ انسحابه من منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو للسلام سنة 1993م معزّزًا منظورَه المختلف نحو القضية وميلَه الأكبر باتجاه الذات والتأمّلات الفلسفية الإنسانية، فانعزل عن أيّ ظرف أو موقع إيديولوجيّ ضيّق، وأخذ على نفسه الارتقاء بالوطن وبالشاعر داخله من الرقعة الإقليمية المتنازع عليها إلى جغرافيا لا تعترف بحدود ولا بملل وفواصل؛ جغرافيا إنسانية عالمية عصيّة عن التصنيف. من هذا المنطلق يمكن فهم المنظور الشعري الجديد والتصوّر المختلف الذي سعى إليه درويش خلال المرحلة الثانية من التقسيم المذكور آنفا؛ تصوّر لشعر صافٍ خالٍ من المؤثّرات الخارجية الراهنة ومن ثقل المسؤولية الملقاة على الشاعر بوصفه الأقدر على حمل قضايا أمّته وشعبه من منظور ما تفرضه عليه سلطة الالتزام في الأدب، يقول درويش في أحد حواراته واصفا هذا التصوّر: [الشعر الصافي مفهوم يسعى أي شاعر لتحقيقه. الشعر الصافي يعني التحرّر من عبء التاريخ ومن عبء الواقع، هذه عملية مستحيلة، فالإنسان لا يستطيع أن يتحرر من ضغط التاريخ والواقع، ولكن عليه أن يسعى لذلك، ليحرّر شعره من آثار راهن يزول، لكي يبحث عن الجوهر وعن العمق. هذا غير موجود، ولكن علينا أن نحاول ونصدق أنه موجود، لكي نبحث عن الشعر المستحيل]. هذا الكلام الذي يصف فيه درويش ما يسمّيه بالشعر الصافي والذي سعى مرارا إلى الوصول إليه يرهق قارئه كثيرا. ومن هاهنا ندرك شيئا عن حقيقة التحوّل الكبير الذي شهدته مسيرته الشعرية والرؤية الفنية المرتبطة بها، وبالأخصّ في السنوات الأخيرة من حياته حين انتقل من طور القصيدة الحماسية الثورية، كما ذكرنا آنفا، إلى أفق الشعر الإنساني غير المقيّد بالمكان وبسياقات اللحظة الزمنية التاريخية. نحاول أن نفهم أكثر فندرك كيف أن درويش قد سعى بشكل بارز في دواوينه الأخيرة إلى الوصول إلى حقيقة "الشعر الصافي"؛ الشعر المتحرّر من شوائب الحياة ومن ضغط الراهن المثقل بالأزمات وبالخيبات الإنسانية، ففرق كبير بين نبرة الصوت الشعري الحماسي في قصيدة متقدّمة له مثل قصيدة "سجّل أنا عربي"، وبين الرؤية الوجودية العميقة في نصّ من نصوصه المتأخّرة، وليكن نصّ "جدارية" مثالا بارزا عن ذلك. لقد عاش الفلسطينيون خيبات متتالية أقصاها شدّةً ما كانت طرفا فيه أيادٍ ذات قرابة أرضٍ ودمٍ مثلما حدث لهم بلبنان سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في "تلّ الزعتر" (1976م) وفي "صبرا وشتيلا" (1982)، هذه الأزمات جعلت شاعرنا يراجع لاحقا الكثير من الأفكار والرؤى حول ما يحيط به وحول بعض القضايا التي أُلصقت به سنوات طويلة (شاعر الوطن، شاعر المقاومة، شاعر القضية)...إلخ. يقول درويش في حوار آخر: [غالباً ما أُقَدَّم محاطاً بعوامل تاريخية وخارجية وسياسية مرهقة. كأني ممثل أخلاقي أو سياسي لقضية اتفقنا على تسميتها بالمقدسة. هنا الشاعر الذي في داخلي يشعر بالقلق. فأنا ليس لدي أجوبة ولا أحمل مشروعاً سياسياً، ولا أنطق - شعرياً على الأقل - باسم جماعة، وإن كان هذا المستوى موجوداً في الخلفية الشعريّة. لذا أحاول التخفيف من ضغط تلك الحمولة الرمزية: لا بدّ من تناول شعري بشروطه الجمالية العامة، لا بخصوصية انتماء صاحبه. أطالب بأن أعامل كشاعر لا كمواطن فلسطيني يكتب الشعر. تعبت من القول إن الهويّة الفلسطينية ليست مهنة. قد يتكلم الشعر عن قضايا كبرى، لكن علينا أن نحاكمه بخصائصه الشعرية، وليس بالموضوع الذي يتكلم عنه. الشعر يُعرّف جمالياً لا بمضمونه، وإذا تطابق الاثنان فإن ذلك جيد]. هذا الحوار أجري معه بعد تقديمه أمسية شعرية، يتحدّث فيه درويش عن ثقل وعبء لقب "شاعر القضية الفلسطينية" الذي كان يتبعه أينما حلّ، وكيف أنّ مقدّم هذه الأمسية قد مهّد لصعوده إلى الركح بعبارات حماسية تحيل إليه. درويش كان يتمنّى أن يتلقّى الناس شعره فنيّا وجماليّا قبل أن يقرأوه موضوعاتيا، على اعتبار أن وصف " الشاعر الفلسطيني" كان يغطّي على شعرية القصيد ويجعلها تبَعًا للمضمون الثوري، فالكاتب؛ أيّ كاتب هو نرجسيّ أمام نصوصه، وأكبر غاية لديه أن يقرأَ الناس كتاباته ويتلقَّوها فنيّا ويستمتعوا بها ويناقشوه فيها ويكتبوا عنها كثيرا، لا أن تكون هذه النصوص رَهْنا إجباريّا لمضمون أو لقضية ما، لتحجُب عن القرّاء قيمها الفنية وتُعمِيهم عن الالتفات إلى أدبيتها. هكذا كان تصوّره للشعر الصافي الذي سعى إليه لاحقا، وسعى من خلاله إلى الانعتاق ولو قليلا من قيود النزعة الجَمْعية التي انغمست تحتها كليّا وانصهرت كلّ آلام الذات الفردية، فالمأساة كما هي مأساة جماعية هي أيضا مأساة فردية لشاعر وإنسان عاش معاناة يريد أن يقولها للناس شعريّا. يقول درويش في موضع من قصيدته "جدارية": وأنا الغريب بكلِّ ما أوتيت من لغتي. ولو أخضعت عاطفتي بحرف الضاد، تُخضِعني بحرف الياء عاطفتي، وللكلمات وهي بعيدةٌ أرضٌ تجاوِر كوكبا أعلى. وللكلمات وهي قريبةٌ منفى. ولا يكفي الكتابُ لكي أقول: وجدتُ نفسي حاضرًا مِلْء الغياب. وكلٌما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ الآخرين. وكلٌما فَتَّشْتُ عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبةِ، هل أنا الفَرْدُ الحُشُودُ؟