اكتشفتُ كتبَ الناقد المسرحي والسينمائي ووزير الثقافة الأسبق في الحكومة السورية د.رياض عصمت قبل ما يقرب من عشرين سنة في مسرحيته «هل كان العشاء دسما أيتها الأخت الطيبة» و«طائر الخرافة» ثم بعدها في مجموعة من أهم كتبه النقدية وترجماته التي لم تنقطع حتى خلال فترة استوزاره، وكنا نتابع مقالاته في افتتاحيات مجلات «المعرفة» و«الحياة المسرحية» و«الحياة السينمائية» التي شرُفتُ بالكتابة فيها إلى جانبه في السنوات نفسها، والحقيقة أنّ الرجل ذو قلم ذهبي، وتمثل كتبه الهامة: «بقعة ضوء» أو «شيطان المسرح» أو «المسرح في بريطانيا» علامات شديدة السطوع في النقد المسرحي المعاصر ليس في سورية وحدها بل في العالم العربي كافة. عاصر رياض عصمت تحولات ضخمة في الفن العربي، وكان لدراسته في بريطانيا أثر هام في نوعية مشاركاته في الفعل الثقافي في بلاده بعد عودته، لذلك فإنّ الكتابة النقدية عن المسرح في الافتتاحيات التي ذكرتها لا تعتبر عند الرجل عملا طبيعيا فحسب بل واجبا من حيث أنه «مشاركة اجتماعية وثقافية يستشعر مسؤولية خاصة تجاه ممارسته لها» بتعبير عبد الله الغذامي في «ثقافة الأسئلة» وهي كتابة تؤكد أنّ الناقد المسرحي يجب أن يقاوم الإغراءات التي تدعوه للازورار عن الانتباه إلى أعمال «تومض وتختفي مثل الشهاب» كما يعبّر هو نفسه في «بقعة ضوء: دراسات تطبيقية في المسرح العربي» كما لا تستجلب لنفسها جمهورا كبيرا من المهتمين. ناقد المسرح على خلاف جميع نقاد الفنون الأخرى يواجه رهانا حقيقيا: أنه يكتب عن عمل قد لا يتسنّى للأغلبية من قرائه أن يشاهدوه، فالعرض «شيء آني وزائل والنص وحده هو الباقي إلى الأبد» ويبدو من الصعب جدا أن يقرأ لك أحدهم مقالا عن عرض لم يشاهده، وسيكون من غير المجدي عند الكثيرين مثل هذه القراءات لكن يبقى التأكيد على أنّ «تحليل المسرح من وجهات نظر مختلفة، يغنيان المسرح، ولكن هذا لا يأتي – للأسف - إلا إذا امتد شعاع ضوئي نافذ إلى عناصر المسرح جميعا لذلك فهو يعلن: «حاولت أن أتلمس درباً مجهولاً مليئاً بالعثرات والأشواك.. أن أمسك نجماً..أن أجعل النجم بقعة ضوء تنصب على المنصة الجرداء فتبعث في الشخوص الواقفين عليها الحياة.. ثم تجمد هذه الحياة على صفحات الورق». اجتهد عصمت في كتاباته المتتالية ليحافظ على أكبر قدر ممكن من «الموضوعية العلمية والإنسانية في التصدي لكل عمل مسرحي على حدة، ومحاولة معالجته من داخله، بحيث يكون البحث تسجيلاً أميناً للنص والعرض في آن واحد..إن البحث عن منهج فني موضوعي كان غائباً عن حساب صحافة المسرح في سورية )وفي العالم العربي(، بحيث كانت معظم الكتابات تعتمد الموقف الإيديولوجي المسبق، أو التعامل مع النص الأدبي. بهذا، كان النقد يتوه في ضباب السذاجة حيناً، والدعاية حيناً آخر، ويضيع كثيراً من القيم الجمالية والإنسانية لفن المسرح». ينبه عصمت بتشريح دقيق إلى وجود أزمة في المسرح في العالم، عربيا هناك الكثير من المظاهر التي تقف ك«دليل على موت التراجيديا وتهافت الكوميديا حقا» و«انكفاء الجمهور عن متابعة العروض الفنية الراقية وإقباله على العروض التافهة»، وعالميا –حيث يفرق بحدة بين وضع المسرح في الجانبين-تتعلق الأزمة بارتفاع تكلفة الإنتاج وتراجع دعم الدولة للمسارح الفنية كبيرها وصغيرها بحيث أصبح الاعتماد على دخل شباك التذاكر وحده مدعاة لانحرافها نحو النزعة التجارية فضلا عن الارتفاع التلقائي لسعر التذكرة فوق مستوى دخل المواطن العادي». يجب التوضيح هنا أنّ «النزعة التجارية في الغرب وهذا ما يشير إليه عصمت وسبق أن أشرتُ إليه في «القارئ والعلامات» تعني بالتأكيد شيئا مختلفا تماما عما يُعرف عند العرب. نشر رياض عصمت كذلك كتبه «المسرح العربي: سقوط الأقنعة الاجتماعية» و«ضوء المتابعة» و«المسرح العربي بين الحلم والعلم» كما أخرج عروضا عدة وترجم في النقد السينمائي «سينما الغرب الأمريكي» و«التمثيل السينمائي» إنها مجال خصب لمعرفة شديدة الاتساع، إنه لا يتوقف عند تحليل عرض مسرحي أفقيا من خلال تشريح المفردات الإخراجية وحدها، بل يزيد على ذلك بإثبات نماذج عالمية، وأسماء فنية، وحالات إبداعية يقارن من خلالها، ويعود إلى التاريخ الفني العربي، ويمارس تقعيدا لبعض الممارسات وتأصيلا لبعضها المقولات، إنه يثقّف قارئه ويعلمه تذوق العمل الفني بمداخل تختلف من كتابة إلى أخرى وهي كلها ممارسات فنية تحمل لنا كما يحب أن يصرح هو ذاته عن واحد من عروض السيدة فيروز: «غيمة من السحر والضوء والحلم»...