كثيرا ما تستدرجني الذاكرة إلى ما تخفى من الزوايا لتحفر حتى في تلك التفاصيل الدقيقة التي ترفض الرحيل أو النسيان خاصة ما خزنته عين الطفولة التي لا تنام. أستحضر الآن مدينتي التي غابت الكثير من ملامحها وتفاصيلها وسط الفوضى والزحام، شوارعها مكتباتها مدارسها مقبرة اليهود، مقبرة المسيحيين ومقبرة لالة مغنية، البلدية بكل حضورها الطاغي في الشارع الرئيسي والجامع الكبير وجامع اليهود والكنيسة وقاعات السينما وتمثال الأموات في قلبها والملعب الكبير، الذي كان يجمع كل تلاميذ مدينة مغنية إيناثا وذكورا بمختلف المستويات التعليمية والأعمار من أجل تلك التدريبات الجميلة والأنيقة التي كنا نشتهيها وننتظرها بفرح لتحضير احتفالات المناسبات الوطنية، خاصة ذكرى الثورة والاستقلال، تسحبني الذاكرة الآن إلى مقبرة لالة مغنية التي كنت أراها كبيرة وكبيرة جدا في تلك الفترة بعيني طفلة صغيرة لم تصل بعد سن المراهقة كانت نظيفة وجميلة تزينها نباتات ونخلات وأشجار الصنوبر و الدفلى وأشجار الزبوج، على القبور نباتات متنوعة وآنية من الفخار تملأ باستمرار لترتوي منها الطيور، التي كانت في ذهني تسكنها أرواح الموتى، لأن جدتي كانت تقول ان أرواح الموتى هي معنا وبيننا ترانا وتراقب تصرفاتنا. وما إن يأتي الربيع حتى تزهر المقبرة وكأن من سكنوها خرجوا بألوانهم الزاهية المسروقة من قوس قزح لمشاركتنا أعيادنا وأفراحنا، كان مقام لآلة مغنية مفتوحا باستمرار للزيارة والتبرك أو الاستراحة . أكثر زواره كن نساء وشابات في مقتبل العمر لكل واحدة منهن أمنية مخبأة في العمق بحرارة وحميمية. لم تكن المقبرة مخيفة بل كانت آمنة وهادئة، كانت تدهشني قطع القماش المتنوعة المعلقة تبركا على الأغصان، وكل ما يمكن أن تتركه هناك امرأة متمنية الحمل بالذكر الذي يسند العائلة ويؤسس لمكانة الأم ويقويها. العديد من القبور المرتبة كانت تدهشني ، لكن قبرا واحدا كان يجذبني مثل المغناطيس، لأنني وفي كل مرة كنت أدخل فيها المقبرة، أراه وكأنه غرفة استقبال تحيط به النساء والأطفال يوزعون التمر وقطع الخبز والحلوى على كل من يُصادفهم. ما كان يزيد اندهاشي واستغرابي وجود عمتي يمينة معهم، أعلم أن الميت ليس لنا لأننا لم نفقد أحدا في تلك الفترة، وفِي كل مرة أرغب في قراءة الشاهدة -لأن قراءة الشواهد كانت من هوايتي -لم أكن أتمكن، لأن وقت الرجوع إلى المتوسطة يكون قد حان، كما لم أتمكن من سؤال عمتي حتى لا توبخني وتمنعني من الذهاب إلى المقبرة، التي كنت أَجِد فيها الراحة والسكينة أوقات الاستراحة بسبب بعد البيت ومحاذاة لالة مغنية للمتوسطة. في السنة الثالثة متوسط، سنتي الأخيرة قبل الثانوية تعمدت الذهاب إلى ذلك القبر وتفكيك لغزه، لأقرأ على الشاهدة اسم محمد خميستي، اسم مجهول بالنسبة لي. سكنني فضول غريب جعلني أرهق أخي عبد الواحد المتعلم والملم بالكثير من الأشياء، بأسئلتي التي لا تنتهي. قال لي وحسب ما يستوعب ذهني في تلك الفترة، إنه رجل مهم ساهم في تحرير البلد مثل أحمد بن بلة وابن عمتي محمد عبد المالك الذي سجنه الاستعمار سبع سنوات، لذلك الناس يذهبون إلى قبره باستمرار للترحم عليه. غادرت إلى مدينة تلمسان واسم محمد خميستي محفور في ذاكرتي، لأسأل يوما وبنوع من الحرج والخجل بعض أساتذتي في ثانوية مليحة حميدو، الذين لم يبخلوا علي بكل المعلومات التي كانت بحوزتهم، أستاذ الأدب العربي «حماس» وأستاذ التاريخ «بن يارو» والمرحوم «بن ديمراد» أستاذ الفلسفة الذي كان محكوم عليه بالإعدام في فترة الاستعمارية، أخبروني وبالكثير من بالتدقيق من هو محمد خميستي، لأعرف حينها أنه وجه من الوجوه الجزائرية الشابة التي أثبتت قدرتها في الحركة الطلابية الجزائرية التي وقفت بكل الوسائل في وجه الاستعمار. ابن فلاح بسيط في مدينة مغنية. كان مجتهدا، نجح في الباكالوريا واختار الرياضيات كاختصاص لكن الجبهة مع متطلباتها واحتياجاتها دفعته لدراسة الحقوق، مع اندلاع الثورة ناضل وبقوة في صفوف الاتحاد العام الطلبة المسلمين الجزائريين وترأس مؤتمره في 24/30 مارس 1956 في باريس، بعد نداء الجبهة للإضراب العام في 19 ماي 1956 ومشاركته البارزة اعتقلته السلطات الاستعمارية في 12 نوفمبر 1957 في «مونوبولي Montpellier « ليحول إلى سجن سركاجي حيث كان أخوه البكر مكي مسجونا. أطلق سراحه في 1960 وذهب إلى سويسرا متنكرا في زي قسيس. كلّف في سويسرا من طرف عبد الرحمان فارس بجمع الأموال والمساعدات للجبهة، كما ساهم في إنشاء فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم. في 27 سبتمبر وفِي أول حكومة جزائرية بعد الاستقلال عين وزيرا للخارجية. في 11 سبتمبر 1963 يقتله مجهول ????? على عتبات مقر البرلمان بالجزائر العاصمة. الآن، وفي كل مرة أتردد فيها على مقبرة لالة مغنية لأترحم على جدتي والوالدين وأخي بومدين وأقرأ الفاتحة على روح كل سكان المقبرة، لا زلت مع عادتي القديمة أقرأ الشواهد وما استجد من أسماء في كل الأعمار . لم أنس ذلك القبر أبدا والذي سكنتني صورته منذ خمسين سنة، بعد إلحاح طويل وحرارة الشمس القاسية، دلّني عليه حارس المقبرة التي تغيرت كثيرا في شكلها وحجمها وعطر تربتها التي فقدت ألوانها ومن يهتم بها. وقفت عند القبر ، كان وحيدا ومهملا، أصابه الكثير من التلف وكأن لا أحد يطل عليه ويسقي الطيور التي تزوره وينعش قلب النور الذي يسكنه. ملأت الإيناء بالماء وأنزويت أتأمل الطيور والحمام تأتي أسرابا، لتروي من مائه وتؤنس عزلته التي استمرت طويلا، وتسأله بخجل عمن صوب باتجاه رأسه فوهة مسدسه، في ذلك اليوم المشؤوم وهو يهم بمغادرة البرلمان ولم يتجاوز عمره العقد الثالث إلا بقليل