تنساب من ركن في ذاكرة أيوب أصوات تردّد: *حبْشي، حبْشي ما بْغى يمشي ، اطلق سراحه يا ربّي*، و عبد النور يتهادى في قفة سعف النخيل كحبّة بطيخ بقميص أصفر رثّ وسروال أخضر قصير إلى ما تحت الركبة قليلا يكشف رجليه الصغيرتين. أخته مبروكة بقامتها الفارعة وبحماسها الشديد تشترك في حمل القفة الكبيرة مع أخته سعدية التي كانت أقصر منها قليلا كانت خطاها تتعثّر في الزقاق بسبب وزنها الثقيل، لكنّها خير من يحمل الأطفال الذين تأخروا في المشي في القفة والقيام بجولة العلاج هذه بإطلاق النداء المتكرّر منذ القدم: حبْشي حبْشي ما بْغى يمشي أطلق سراحه يا ربّي*. تُفتح الأبواب الرابضة في الزقاق الطويل، تتسارع الأيدي مستجيبة للنداء بملء القفة بشي من الدقيق والسكر لعلّ في العطية الثقيلة بركة تبرئ الصغير فيخفّ الثقل في قدميه ويغدو كما باقي الصغار في سنّه يمشي ويعدو. مبروكة على يقين بأنّ المعجزة ستتحقق، ترمي بضفيرتين طويلتين إلى خلفها تمدّ يدها تمسح العرق المتصبّب من جبينها، تسحب لسانها تمسح به شفتيها المتيّبستين بفعل العطش لعلّهما تبتلان بريقها ، تتثاقل مشيتها، فتدرك سعدية بأنّ نصاب العلاج قد اكتمل. تتحسّس سعدية التراب بقدميها الحافيتين وقد نال منهما التعب وبرزت الشقوق أسفل كعبها أكثر اتساعا، تمدّ يدها تسوي من جلسة الصغير عبد النور في القفة، يكف هو عن البكاء الذي ظلّ يصّاعد متمازجا مع صيحات سعدية ومبروكة وصبْية الحي الشعبي الكبير: *حبْشي حبْشي ما بْغى يمشي أطلق سراحه يا ربي.* يركّز الصغير عبد النور عينيه الواسعتين على العطية، دقيق سكر، قمح...تُمسك سعدية القدمين البضّتين الصغيرتين بيدها ثمّ تتمتم: يا نفّاع، يا نفّاع، يا شافي يا عافي يا سلطان الموافي.* ثمّ تمرّر قبضة ملح على رأسه سبع مرّات لتلقي بها بعيدا للتخلّص من الأرواح الشريرة. يعود عبد النور ليفتح فاه واسعا ويداه الصغيرتان معلّقتان في الهواء كقفة مفرغة من كل شيء ، يزيد من جرعة البكاء لعلّه ينعتق من القفة الملعونة ومن أكوام العطايا حوله .لكنّ الموكب العلاجي يزيد من جرعة النداء المتكرر : حبْشي حبْشي ما بغى يمشي اطلق سراحه يا ربي*. يتطاير الغبار تحت الأقدام الصغيرة الحافية والشمس تتوسط كبد السماء في يوم خريفي يعد بجني قريب للتمور.