سافرت منذ أسابيع إلى مدينة * ليون * في عطلة علمية استغرقت بضع أيام فقط، زرت خلالها المكتبة الجامعية ، ودردشت لبعض الوقت مع أساتذة وباحثين في شؤون التعليم والبحث العلمي. وبعيدا عن الجامعة ومحيطها، اختلست سويعات لازور عددا من بؤر المسرح والفنون ، لأتجرد بعدها كالعادة للغوص في الأجواء الفنية والشعبية البهيجة في ساحة بلكور، التي تتزين في أيام الخريف المشمسة بأوراق الأشجار،وبألوان الموسيقى ومسرح الشارع والارتجال ، على مرأى ومسمع من المارة والسواح ، الذين غالبا مايتوافدون بكثرة على هذه الناحية للتنزه أو للتبضع من المحلات المنتشرة بمحاذاة الساحة. ما لفت نظري مثل كل مرة،تقدير الناس من كل الأعمار للإبداعات الفردية والجماعية المعروضة بالشارع ،موسيقية كانت أم مسرحية،بل ويقفون مبتسمين لمشاهدة ما يعرض إلى النهاية، ويؤدون انحناءات التحية ويصفقون بحرارة ، ويضعون طوعا قطعة أو قطعا نقدية في قبعة الممثل او المقلد أو الموسيقي .. وآنا أهم بالدخول إلى ( لافناك) لاكتشاف جديد عالم الكتب ،شدني من أذناي عزف مشرقي شجي ،فتراجعت خطوات لأمد بصري إلى مبعث هذا النغم الأخاذ ، وساقتني رجلاي بالعجل لاستمتع بعزف شاب تركي على الكلارينات ، هزني وأبهر المارة بألحان عذبة حرينة ، أذكت في دخيلتي لظى وحش البعاد عن الأهل والولد. استليت من جيبي بعض القطع الصفراء ووضعتها بقبعة العازف ، وعدت أدراجي إلى قصر الكتب لأقف على ماجد من بحث وإبداع في المسرح ، فوجهتني إحدى السيدات إلى حيث بغيتي ، وألفيت كورني وموليير وراسين ، وشكسبير ووبستر ومارلو على الرف الأول في استقبالي . وفي رف أخر ، تلمست يداي دراسات جديدة عن التمثيل والإخراج المسرحي والسينوغرافيا ، وعلى رف ثالث،اصطفت أبحاث فنية حداثية عن أنتونان آرتو ومسرحه ،ورولان بارث وأفكاره ، وماغريت دوراس ومسرحها الفلسفي، هذا فضلا عن عديد المجلات الفنية التي غصت بها الرفوف السفلى في هذه الزاوية الفنية . انتقيت بعد سويعة أمضيتها في ضيافة جناح المسرح ، جملة من الكتب حول الكتابة المسرحية ، والنقد المسرحي ، وتكوين الممثل ، سددت ثمنها ، وغادرت (لافناك) منتشيا بهذه السياحة الفنية المعرفية ، وقطعت ساحة بلكور أخطو مزهوا على إيقاع موسيقى الآلات النفخية من عزف فرقة نحاسية شبابية ، متوجها صوب فيكتور هوغو،هذا النهج الذي يعج بشتى أنماط النشاط التجاري ،ويتكوم على جانبيه كثير من المحتاجين من جنسيات مختلفة ، يستعطفون المارة والمتجولين بالمنشورات ، والمعزوفات الموسيقية ، والألعاب البهلوانية ،وإشكال الأداء والارتجال ، ليجودوا عليهم بالابتسامات وبضع سنتات. تمثلت هؤلاء و أنا أمر بالقرب منهم ، بالتفرس في عيونهم وهيئاتهم ،إنهم يشابهون إلى حد ما * كوزيت * ، وكل الشخصيات المقهورة التي صورها أديب الإرهاص الثوري في فرنسا ، العملاق : فيكتور هوغو في رائعته الدرامية الخالدة : * البؤساء*...