عالم بلا جدران أن يتفق شعراء العالم على تواريخ ومواقيت محددة لإعلاء أصواتهم، ويسمع رجع صداها حتى في أبعد نقطة على مساحة الكرة الأرضية، وأن تختلط وتمتزج اللغات وموسيقاها وينسج الحنين المشترك الذي يجعل الإنسان إنسانا جسورا من نوع آخر؛ شيء لا يقدر عليه إلا الشعر بمعناه الإنساني العميق. الشعر هو نوح والسفينة وما حوته من أزواج في مواجهة الطوفان ؛ طوفان العصر بكل تناقضاته ومستجداته المبرمجة مسبقا، لتشويه عمق الإنسان وتشريده مع ذاته وعلى حواف العالم المغلقة بإحكام. الشعر هو وحده النبتة التي تنحت من الصخر وزهر الرمل ماءها، لتزهر مهما كانت الظروف لأنه قلب الإنسانية الخفي والصامت النابض بعمق ودون ضجيج ، هو الروح المشتعلة والمتقدة لتي يستحيل قهرها لأنه نبض الدهشة الأولى في اكتشاف المعرفة الإنسانية بكل شساعتها واتساعها التي لا تعترف بالحواجز والحدود؛ تنتفي معها المذاهب والأديان والهويات والجنسيات؛ ولأنه غاية إنسانية بالدرجة الأولى والأداة الفعالة للإنسانية لتأمل ملامحها المشوهة ومعرفة نفسها المعقدة؛ تبقى هويته الوحيدة هي الإنسان. الكلمة وحدها بقوتها وثقلها وعمقها الإنساني، يمكنها أن تخترق جدار الصمت لتصدع الحواجز المادية والمعنوية، وترفع عاليا الحكمة الإنسانية المتمثّلة في الصبر والانتظار وشوق الاكتشاف والأمل والحلم . الكلمة هي السلاح السحري الذي يعطي للحياة معناها وعمقها. الأسماء مهما كان ثقلها وعمق وجودها ومهما كانت قوتها وجبروتها، يأتي زمن وتختفي وتغيب لسبب أو آخر في لحظة من اللحظات، مخلفة وراءها ربما الموت والدمار أو الجمال والمتعة والحكمة والعمق؛ لكن تكفي كلمة أو جملة أو قصيدة خلفها البعض، ليصبح محتواها ركيزة تعتمد عليها مجموعات إنسانية متعددة في تسيير حياتها وعلاقاتها الخاصة والعامة؛ تسطر بها قوانين وتخط منها قيما إنسانية، تصبح للكلمة أجنحة بقوة الرياح والعواصف، لا أحد يوقف رحيلها مع كل المواسم، كم حكمة وكم كلمة زرعت الإنسان وسقته كما تزرع النبتة الضرورية للحياة، كلمة واحدة يمكنها أن تنير الزوايا المظلمة والمعتمة. الكلمة وحدها تضيء الشموع وتخطف لمعة النور وتسرق خيط الفرح ليزهر نورها دون أن تخاف أو تتوجس من الظلمة. وسط هذا العالم المبهم والغامض، الذي أتلفت ملامحه النزاعات والحروب والعنصرية بكل أنواعها وأشكالها ورفض الآخر المختلف، لم تبق لنا إلا الكلمة المسموعة والمرئية والملموسة في كل أشكل الفنون التي أساسها الشعر. في عالم أصبحت نزعته الأساسية الحقد والكراهية ؛ كم هو جميل أن تسقط الحواجز وتقتلع الحيطان والأسوار . لا ندعي أن الشعر سينقد الإنسانية والعالم، لكنه يساعدنا على تحمل بشاعة هذا العالم، لأنه يبقى الذاكرة الحية التي لا تذبل ولا تموت ، وهو وحده من يصرخ في وجه من يسرق هذا العالم من العالم وفي وجه من يكفن الحلم بكل ما تكدس من عتمة. الشعر بهذا المعنى قيمة متعالية على كل ما هو زمني ومؤقت. فهو يندرج في سياق الديمومة التي لا نهاية لها، مثل النبتة لا تجف إلا لتنتج بذورا تسقط ثم تكبر في أول موسم للأمطار والثلوج. وجود الشعر خارج حيطان الحجز والمنع والمصادرة يمنحه فرصا جديدة للتحليق عاليا حيث لا موانع في المسالك، سماء في الأعالي لا قوة تكدر صفاءها، وأرض وجبال في الأسفل، لا قوة تمنعها من الخضرة والتبرعم والتجدد ومساحات على مرمى البصر من الورد . أليس الشعر في النهاية هو الحياة؟؟ أليس هو الحرية المطلقة ضد عالم بني على القيد وتكبيل كل ما هو مختلف عن المعتاد؟؟