سوسيولوجيا، لا يمكن أن نعرف الإشاعة إلا ضمن «المجتمع المنغلق» سياسيا واجتماعيا، أي حيث «المعلومة» و«الخبر» ممركز ومراقب و«مفلتر» فهي، تلك «المعلومة الكاذبة الأكثر صدقا وانتشارا». كما أنها تلك «المعلومة الصحيحة الأكثر كذبا وانتشارا». فهي إذن تجمع بين الشيء ونقيضه! ففي المجتمعات الشمولية حيث الرقابة المفروضة على الكلمة وعلى الخبر وعلى المعلومة وعلى الرأي المخالف، أو الرغبة في التكتم على قصة أو خبر ما، يمكن أن يشكل اهتماما للرأي العام، تلجأ «الجماعات الاجتماعية»، إلى تهريب وتناقل المعلومة عبر الحامل الشفهي السمعي: من فم إلى فم ومن أذن إلى أذن، محاولة اختراق جدار المنع والرقابة والتحريم والتجريم! فالمعلومة خطر أحيانا والخبر في كثير من الأحايين «مهدد للمصالح العليا»! القلق من انتشار الخبر (سياسيا كان أم اجتماعيا)، هو السبيل لنشره وانتشاره! فالوسيلة الأكثر فاعلية للدعاية للشيء، هي منعه من التداول!. فالمجتمع يمثل عقل المرأة! أولا يقال « إذا أردت أن تذيع شيئا سريا فقله لامرأة»!؟. المجتمع المرغم على استقبال الأخبار الرسمية وفقط الرسمية ويمنع ما دونها، سيطور من آليات فك الرقابة من أجل اختراق جدار الصمت، وذلك بمختلف الآليات: نقل خبر عن ناقل الخبر، ترويح لخبر مفبرك، تغيير مضمون الخبر والمعلومة لسبب ذاتي أو موضوعي، تحوير وتغيير مصدر المعلومة أو إسقاطه على فاعل آخر، التغيير في الزمن أو في المكان أو في كليهما معا، التعمد في نقل ونشر المعلومة «المشوشة» أو نشرها بعفوية بتصديقه أو بدون تصديق أو حتى بالتشكيك! كلها أساليب في إحداث «الخبر» ونقل «المعلومة»: من هنا تنبع الإشاعة! ومن هنا يحدث الانتشار والتداول والاستهلاك! المعلومة المشوشة هنا، تكون في الأصل معلومة صحيحة بنسبة كبيرة (غير مطلقة)، أو خبرا صحيحا غير مطلق، لكن عنصر التشويش والتشويه سرعان ما يدخل عليها بفعل التعتيم وجدار «الخرسانة المسلح»، وبفعل تناقل المعلومة شفهيا! فخاصية النقل الشفهي، أن يحور ويغير من الشكل كما يغير في المضمون في كل حلقة تواصل إلى أن يصل إلى تغيير شبه كلي في الشكل وفي المضمون في آخر حلقة التوصيل، ليفقد الخبر والمعلومة «صدقيتهما» وصحتهما الموضوعية، ليصبحا ويتحولا في النهاية إلى مجرد إشاعة التي تعني الخبر والمعلومة الكاذبة جملة وتفصيلا! فالإشاعة إذن كالدخان! إذ، لا دخان بدون نار! ومن هنا نفهم كيف أن آليات إنتاج الإشاعة في مجتمع منغلق ومسيج، تخضع لآليات التناقل الشفهي، حيث يحدث ذلك التغير الدائم في مسار وسيرورة «الانتشار والشيوع»، إلى أن يفقد الفعل الأول مفعوله ويصبح هذا الفعل بدون فاعل. الآن، وفي ظل التحولات الجديدة وتطور تكنولوجيات الاتصالات وتناقل الأخبار والصور والفيديوهات، ومع تطور تقنيات التحويل والتزييف والترطيب والدبلجة عن طريق مختلف التقنيات السمعية البصرية وتقنيات تشويه أو تركيب الصورة الثابتة أو المتحركة، أصبح من السهل أن نحول الإشاعة الشفهية إلى إشاعة افتراضية، تبدو حقيقية إذا لم نتأكد ونتريث ونتبين قبل نشرها أو تداولها إما عن طريق تصديقنا للمنشور على الفايسبوك مثلا، أو نشره لدواعي الضحك واللعب دون إدراك لحجم الكارثة التي قد يتسبب فيها هذا المنشور، خاصة مع متلقي يصدق كل ما ينشر. نحن نعيش حالة ثورة مضادة رقمية، مغايرة ومناقضة للإعلام التقليدي المكتوب والمرئي والشفهي. غير أن وسائط الاتصال هذه، لاسيما فيسبوك عندنا في الجزائر الذي هو أكثر استعمالا من بقية الوسائط الأخرى مثل تويتر أو انستاغرام...ثورة بمستويين أثنين: مستوى حرفي ينقل الإعلام المحترف إلى النت، وإعلام فردي يمثل تعبيرا فرديا وليس إعلاما، شبيها بالشفهية حين تنقل إلى ملايين الناس عبر وساط التواصل الاجتماعي. ملايين الصفحات على الفيسبوك تروج لأخبار كاذبة أو مفبركة، بدون حذر، بل بدون انتباه أحيانا إلى أننا ننشر أكاذيب ملفقة قد تعصف بكيان بأكلمه. لاحظنا ذلك خلال الحراك الشعبي وما نشر على الفيسبوك من أخبار كاذبة وتكذيب أخبار حقيقية، ثم يروج لها لخلق حالة من عدم اليقين والشك والفزع والخوف من المستقبل وبث كل أشكال الريبة في الأنفس. استعملت أحيانا تقنيات عالية في السينما وفي الفوطوشوب، إلى درجة أن المستقبل العادي لا يميز بين الصحيح والمفبرك، فيسارع إلى توزيعها وتقاسمها مع الأخريين..وهم يفعلون نفس الشيء، جريا وراء سبق صحفي مزيف، دون أن يغرفوا أنه مزيف أصلا..أو بسوء نية أو لمجرد العبث واللعب. وهناك فرق طبعا بين أن ننشر صورا وأخبارا مضحكة يعلم ونعلم القارئ أنها ليست حقيقية بل فقط للسخرية..وهذا ليس مقصدنا، وإنما قصدنا هو من يقدم الخبر بحسن نية أو بسوء النية على أنه حقيقي لغرض تصديقه من الطرف الآخر. هذا هو الخطر، لأنه باختصار تضليل إخباري مغرض. السرعة والتسرع في النشر، عامل أساسي في زيادة حجم الكارثة، علما أن الآية الكريمة تنص على التبين قبل التصديق، وليس حتى قبل إشاعة الخبر بين الناس، لأن إشاعة خبر ضار محرم شرعا:«...يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبح على ما فعلتم نادمين» (الحجرات/6). ليس كل ما ينشر على الفايسبوك واليوتوب وباقي الوسائط الاتصالية صحيح، بل أغلبه غير صحيح وغير دقيق وأكثره مفبرك، مشوه للحقيقة، ليست خبرا احترافيا ولا ذي مصداقية، ومنه وجب على العائلة والمتلقي والشاب والطفل أن يعلم ذلك، بل وأن يعرف أنه هو بإمكانه أن يكون له موقع وصفحة ينشر فيها ما يشاء أكاذيب وأباطيل ودعاية مغرضة وتعرض للناس وسب وشتم، وتشويه للحقيقة وتزييف للصورة والمساس بأعراض الناس..إذن، مثله من الملايين بإمكانهم فعل ذلك، وبالتالي فلا ينبغي أن نصدق كل ما يرد إلينا أو نقرأه أو نراه أو نسمعه، إذ لابد من التمحيص وعدم التسرع في نشره من جديد، لأن هذا هو الأخطر: إعادة التوزيع للموزع أصلا وهو كاذب. تتحمل السلطة السياسية القائمة جزء كبيرا من نتائج انتشار الإشاعة والترويح لها وتصديقها أحيانا بسبب سوء تسيير الاتصال المؤسساتي والمعلوماتية وتسويق الخبر. التعتيم والمنع والسكوت والحظر، من شأنها أن تغذي حالة البحث عن الرغبة في الإشباعالإعلامي لدى المستهلك، مما يدفعه إلى اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي لإيجاد ضالته فيها وبحثا عن إجابات لم تقدمها له وسائل الاتصال الرسمية أو العمومية أو القنوات الفضائية أو الصحف المحترفة التي يرى فيها المستهلك مخفية للحقيقة فيصدق أي شيء يجده على الفيسبوك أواليوتوب. هذا ما يزيد في الطين بلة، وتنقلت المعلومة لتصبح مطية وسلاحا فتاكا في أيادي أطفال لا يعرفون خطر زيف المعلومة..مثلما لا يدركون خطر اللعب بالخرطوش.