هنا، في جزيرة النوارس كما سماها الأجداد؛ هي من يحتفظ بمفاتيح المدينة العتيقة وهي من يحمل سرها الأكبر، عند الحاجة تفتح أبوابها السبعة المنقوشة حروفها في كتب الأولين. يسكنها سؤال دائم هل هي أبواب الجنة أم أبواب جهنم!!!؟؟؟ باب الوادي باب الدزيرة باب البحر باب عزون باب الجديد باب سيدي رمضان باب السبوعة، كل يوم بلا تعب ولا كلل. تبدأ بباب البحر، مطلة على زرقته وأفقه تحاور نوارسه وتعد السفن الآتية والمغادرة، تقرأ تاريخا مضى وآخر لا زال في عيون المجهول، ترتل آيات الغياب والوجع على أرواح من تسربوا ذات فجر، على متن أخشاب مهترئة يتوزعهم الموج والطحالب وبطن الحوت. هي الظل المفعم بالأرواح النيرة الحاملة لكل الخير والبركات. وحدها جابت كل الشوارع. وحدها جابت كل الممرات حتى تلك الضيقة منها، تجمع ما تخفى من الفرح والتساؤلات العالقة تثبت على الحيطان أسماء كل من غابوا بدون حق من أجل كل الحق. ليست مجنونة كما يدعون ولا فاقدة للذاكرة، ليست متسولة ولا عابرة سبيل، هي أول من يقف عند عتبات البريد المركزي وساحة أول ماي وساحة أودان، وأول من يهدي نفسه لكل الفضاءات ونقاط الانطلاق للرحلة الأكبر والعبور إلى الأجمل، ملتحفة بأعلام منها الجديد ومنها القديم ومنها من حالت ألوانه بفعل الزمن ؛ أعلام لا يعرف مغزاها ورمزيتها وعددها إلا هي، توزعها بسخاء لمن تشتهي نفسها وعلى من يستقر نبض قلبها. تعطي لكل علم إسما ونعتا ورمزا، علم الحب علم المحبة علم السلام علم الأمن علم الأمان علم التسامح علم التعدد علم الجمع والمفرد علم التضحية علم التفاؤل علم الأمل علم الجمال علم الآتي المضيء والمشرق. علم وحيد أوحد لم تسلمه لأحد؛ الكل صغارا وكبارا إيناثا وذكورا يتسابقون للمسه وضمه وتقبيله وشم عطره. هو علم فقط للتبرك والدعاء للوطن والترحم على الشهداء، علم خاطته بنفسها ولم يتجاوز عمرها 12 سنة؛ مثل الكثيرين والكثيرات الذين كانوا سرا يخيطون الأعلام في بيوتهم أو في الورشات التي خصصتها الثورة لذلك. علم لا زالت علامات الدم منقوشة على تفاصيله، وثقوب الرصاصات التي سكنت صدر شهيد مجهول، يبحث الآن عن حقه في النور وسط الجموع التي تنبت يوميا مثل العشب أخضر. امرأة تعددت في عيونها الآمكنة والوجوه والملامح وتزاحمت الأعمار، تفصص الآن شريط التفاصيل الدقيقة التي ربما يغفل عنها الآخرون، لا شيء يغيب عنها أعينها كثيرة بعدد النجوم، وقلوبها واسعة سعة البحر والبر والفضاء اللامحدود. تتسرب فجرا من ركن خفي لمقام الولي الصالح سيدي رمضان في حي من أحياء القصبة، ملفوفة في الحايك الموروث عن الجدات العتيقات. تتسرب نورا خفيا بين الأرض والسماء لا أحد يحس بخطوها ولا أحد يحس بتسارع أنفاسها ولا أحد يلمس نبضات القلب المتسارعة. الكل يعود لأماكنه ودفئه المعتاد محاولا حفر ذاكرة اليوم وما خلفته من تفاصيل؛ لكنها هي وحدها أول من يكون وآخر من يغادر. تجمع القصاصات والصور وما خلفه العشب الأخضر من شعارات وكلمات وحكم وصراخ وأصداء وحرقة ووجع، تخفيها بين أحضان الولي الصالح حتى لا تموت الذاكرة ولا تنطفئ شعلة البدايات الواعدة.