من أين أدخلك أيتها المدينة المعلقة على حواف جبل كنا نسميه بآلاف الأسماء. أنا الآن عند عتباتك، يا مدينة سرقوا منها اندهاشة الطفولة وحكمة العقلاء. أنا هنا، عدت بما خطفت من تربتك الزكية زمن القحط وسُحن الموت. هذه زوّادتي فيها ما تيسّر من أنفاس النساء المنسيات الغافيات في أحضانك، ممن سكنهن الغبن والحسرة ووهج الحكاية. أدخلك أيتها المدينة حافية إلا من نزف لفّ الروح قبل أن ترحل. أنا هنا أتكئ على حواف قلب لم يعد يعرف كيف يهيئ نبضه للسنين العجاف. آتيك أيتها المدينة التي سكنتها تفاصيلي دون أن تمهلني لأسكن تفاصيلها. أنا هنا أرحل إليك وبك وفيك فراشة تبحث عن نور بهت على حين غفلة. أنا هنا أدخلك متسللة من الحيطان الخلفية تسيرني الريح المتواطئة مع خفاياك، ريح نسيت صداها في أنفاسي ذات رحيل. أحاول أن أدخلك من البوابات السرية قبل أن تنبت الأسيجة والأسوار الغريبة.. هنا كانوا يسنون المدي والسكاكين، ويعدون العدة للمذابح القادمة ولا من أحس ولا من درى ولا من رأى. هنا وهنا وهنا كنت مع طفلات الحي بألواننا القزحية، بشرائطنا وجدائلنا المدللة نشي بأسرارنا للحارات والأزقة وللحمّامات العتيقة وهي تحتفي بتفاصيل أجسادنا الغضة في أول اكتشاف. الآن، وأنا منكمشة كقطة جافلة في حجر جدي أفصص أزمنته الغاصة بي، أفرش كتبه ووصاياه، أبعثر تواريخ العشق والوجد وكل ما أتلف من لغة المجانين، من عبلة وليلى إلى حيزية وقرة العين، أبحث عنكَ في دقات ونبض الزمن الأول، في لمعة الشعاع الهارب إليك، في الحلم المستعصي الذي أُتلفت وجهته، هنا أشرعتي الخجولة غابت عنها رياحها الموسمية، تسربت منها عواصفها ثوراتها، انفلت منها طوفانها غضبها هيجانها. كيف لي أن أتسرب ماء زلالا إلى حناياك الندية، وأن ألمس تحولاتها وأفرش شيئا من حنيني، وأعشابي العطشى تستجدي هطلا مفاجئا. هنا، في ما تبقى من النفس أفرش لك الروح وأناشيدها الأسطورية، أقمطك جنينا هشا وشفافا بصمتي الغاص بي وأنا أفتح شطآنه لارتعاشاتك المجنونة تعرش دالية سرية في مساماتي وما تبقى من اهتزازات القلب المتعب. قلبك الآن يتسلل فيّ وإليّ كرضيع منسي على حافة بئر مهجورة أو باب مسجد عتيق أو عتبة وليّ صالح، يتلمس ثدي أم لا زالت طفلة أجبرت على تركه هناك لأنها توحدت يوما مع عاشق أو عشيق ألبسها وحدها لباس الخطيئة قبل أن يتوارى وينطفئ مهزوما في خوفه وجبنه. يحدث، أن تعرش في الصدر شجرة يانعة الحزن، تشعل فتيل العمر كما الجدات الغابرات وهن يشعلن فتيل الحياة، في كل الأزمنة والأمكنة، حتى تلك التي لم تنبت بعد. يحدث أن تزهر فيَ أشجار الحكمة واليقين والشك والخطيئة والتوبة والغفران والهبل والجنون والهذيان والتهوال والخوف والحيرة والتوجس. يحتويني الجذب كما العارفات بمرتبات التوحد، أخبئ قلبي في قلب قلبي لأغافل الأزمنة الرديئة بكل أحوالها وأهوائها، أمتطي غصتي حمامة شاردة هائمة في كل الجهات، و أمضي حاملة أناي وأنا أُقنعني أن لا ألتفت إلى الخلف كي لا أتحول صنما من ملح أو جبلا من ماء. يجهدني عنادي وأصرخ، ثم ماذا إن التفت وعانقت امرأة لوط حد التوحد وتحولت صنما من ملح، أداوي جراح البحار المهجورة ومن مرّ من المتشردين والفارين من قمع السادة وحراس النوايا، أو أسرق حفنة ماء من بحر نوح وأسكن بطن حوت كما يونس النبي أو ألتقي بعرائس البحر الهاربات من الوأد، المتسربات مع رمل الربع الخالي أو الربع العامر كما تريدون، إلى أعمق أعمق البحار، الحاملات لأسرار الأولين والقارئات في جذع النخلات التي خبأت أولى الموؤودات وهي تحفر أنانا الدفينة. أحاول الآن أن أداري قدري الوافر الفطنة، قدري الذي لم تصبه لا سنة ولا نوم، قدري الواقف كالحراس السبع في مدخل النفس، أمتطيه مهرة شاردة وأجرب هبلي على حافة السكاكين الصدئة المهيأة لذبحي، حتى قبل أن أُعلن أنثى في قائمة آدم لما علمه الله الأسماء كلها، علّي أجدك صدفة في مهب فرحي المشبوه والمؤقت. أحاول أن أسكنك عنوة وأرتب مخبأي السري فيك كالمجنونة العابرة لما استعصى من العصور والأزمنة.