لست أدري ماذا أكتب أو أقول وأنا التي انقطعت عن الكتابة منذ مدة، فقلمي اليوم يأبى أن يسايرني ويخط كلمة واحدة، فما لي أراه متثاقلا والعلمات تهرب مني، بل وأعجز حتى عن حمل هذا القلم الذي رافقني منذ أكثر من خمسين عاما. نعم لهذا القلم الحق في أن يعسيني ويرفض أن يطاوعني لأن المصيبة عظيمة والخطب جلل، والفؤاد يعتصر ألما وحزنا على رجل ليس كالرجال، رجل عظيم شهم، عال بأخلاقه ومبادئه وفكره وقلمه، بسيط في طبعه وشامخ بعزة نفسه وكبريائه، رجل بقدر عصبيته وطبعه الحامي، تناسب الطيبة من قلبه، لا يعرف النفاق، لا يعرف الحقد، لا يعرف العبوس، فهو دائما مقبل على الحياة، مبتسم، يزرع البسمة والفرح فينا مهما كانت همومنا وأحزاننا، بدعاباته التي لا تنتهي وقصصه عنا أهله وأقاربه. بومدين رغم أنني تقاعدت وخرجت لأستريح من هموم المهنة، لكنك بقيت في قلبي وفي ذاكرتي، بنكتك وضحاكتك وقهقهتك لا زلت أتذكر كيف كنت تأتي الى مكتبنا بالقسم الجهوي المنعزل وتحبّذ الجلوس معنا ولا ترتاح الا في هذا المكتب، نتحدث، تتذكر الماضي وتسعدنا أنا وزليخة وسعاد وبقصص عماتك وخالاتك وأخوالك وجدتك نعم أحفظ حتى أسماءهم، فأنا أتذكر اسم جدتك مامة، وخالتك خيرة، وخالك قويدر والنكت التي كنت تحكيها عنهم جميعا رحمهم الله، ورحمك. نعم كل شيء تحتفظ به ذاكرتي وأعيد سرد تلك النكت على أبنائي، فهم أيضا يعرفونك، ويطلبون مني أن أحكي لهم تلك النكت، (خصوصا حادثة الحمام، وشافها وشافته، وباعني نرقص لها و ... و ... القائمة طويلة، كنا نستمتع دائما بتلك الحكايات وقد كنت بارعا فيها ترويها وتمثلها في نفس الوقت، كنت إنسانا غير عادي، متميزا في شخصيتك ومظهرك في ثقافتك وفي أخلاقك، لهذا أحببناك، امرأة ورجل. بومدين لازلت أتذكر، عندنا تناديني من آخر الرواق وأنت قادم الى مكتبنا «يا المرا يا المرا» لا يزال صوت ورنين هذه الكلمة في أذني، وأنا أكتبها الآن، تنهمر عيناي بالدموع، وتبلل الأوراق، فأنا مثلك بومدين لا أزال أكتب بالقلم على الورقة، لم أستسغ التكنولوجيا بعد رغم أني أحسن استعمالها. بومدين، لم ولن أنسى دموعك وأنت تودعني عندما خرجت الى التقاعد، ولم أنسى أنك قاطعت زاوية مكتبنا لمدة شهور لأنك لم تكن تجدني، وكنت تقول لزليخة عندنا أراك أشم رائحة فتيحة. بومدين، ألم أقل لك أنك متميزا في كل شيء حتى في خصامك (طبعا بسبب العمل)، كنا نتخاصم كالأعداء ولكن عندما أمر بجانبك أو أمام مكتبك ولا ألقي السلام، تبادرني «أم .. أممم» فلا أجد من بد سوى الإبتسامة، هكذا كنت أيْ والله. عذرا بومدين، لأني كتبت هذا المقال لأنعيك وأؤنبك، وكان الأحرى أن أكتبك لأهنئك بتقاعدك مثلما كتبت عني أنت ذلك الإحساس الرائع وسمّيتني بأعظم اسم، «خرجت الست»، ألهذه الدرجة كنت كبيرة في عينيك وكنت تعزّني وتحترمني، كيف سأقرأ هذا المقال الذي يقابلني في كل لحظة، وعليه اسمك بومدين بن عياد، خصوصا وأنني كنت غبية ووضعته «في كادر» في غرفتي لك أكن أدري أن؛ ستخلف وعدك وتغادرنا الى الأبد وستخرج من هذه الدنيا دون سابق إنذار. بومدين، لم أستطع يوم العيد أن أرى كوثر حبيبة عينيك، وهي منهارة وتبكيك، أو رفيقة دربك خيرة التي التي جفت دموعها وكانت من فرط الصدمة غير مدركة لما حدث لك ولها. بومدين عذرا لك مرة أخرى، فالحديث عنك ومعك وإليك لا ينتهي، لأن الدموع أحرقت مقلتاي والألم «شج» رأسي ولم أعد قادرة على مخاطبتك. فأنت فتة من فلتات الزمن لا أظن أنها ستكرر بجريدة الجمهورية، كنا نتمنى أن تمهلنا حتى نهنئك بالعيد ونودعك، ولكن أخترت الرحيل مبكرا فلا اعتراض على قضاء الله وقدره، فنم قرير العين يا أخي وابن أمّي الذي لم تلده، طيب الله ثراك وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ونتمنى مثلما روضة من رياض الجنة، ونتمنى مثلما جمعنا على الصدق والمحبة في الدنيا أن يجمعنا بك في الآخرة في جنته إن شاء الله آمين.