أن نبكي مع الأمهات والآباء والجدات والأجداد، لا يكفي. أن نواسيهم للحظة أو لحظات ونتركهم بعدها لحرقتهم وهم يعانقون أشياء وليد لم يشبعوا من رائحته ولا شبع من رائحتهم، لا يكفي. أن نكتب على الجمرة وسعيرها المشتعل في الكبد وتصور مدى فداحة ومرارة الفقد، لا يكفي. هنا بالذات اللغة تطوي أجنحتها في انكسار وتسافر إلى الأمكنة التي فيها للإنسان قيمة وللحياة قيمة وللموت قيمة في زمن أصبحت الحياة تشبه الموت والموت ينافس الحياة في اللامعنى و اللاجدوى ، وكل مايولّد مقاييس اليأس والبؤس. من هنا تبدأ الحكاية ليس لأن حكايات أخرى مشابهة في الفظاعة لم تحدث في مختلف مناطق البلاد؛ كثير من الحوامل قضين بسبب الإهمال والتماطل وقلة الإسعاف ؛ وقائع أصبحت فضائح على مستوى الوطن، كم رضيع أكله النمل وكم رضيع أكلته القطط وكأن شيئا لم يكن. مستشفى بشير بناصر. أهو قدر؟؟؟!!! أقولها وأمضي وكأن الله لم يجد ما يفعله سوى حرق الأطفال، في عز حروب تأكل الأخضر واليابس. لنفكر جيدا ولنتخيل ثانية أن أحد رُضّع كارثة الوادي هو االإبن المنتظر منذ خمس عشرة سنة، وعندما رأى النور جاء قدر صنعه جهل البشر وأنانياتهم وضيق الصدر وضيق النظر ليسرقه من بين الأحضان المتلهفة لاحتضانه؛ قدر يتسلل بهدوء الموت وصمت الأمكنة يخطفه بأبشع الطرق. قدر صنعه الإهمال في منطقة لم تستفد من قطرة نفط؛ على الرغم من أنه ينام تحت أقدامها مثل بطل الخميائي لپاولو كويلو، الذي ركض نحو الذهب ونسي بأن الذهب كان بالضبط تحت قدميه وتحت الشجرة التي كانت تظلله كل يوم. للأسف لم ير سكان الجنوب نعمة يسمعون بها في كل لحظة ولا يرونها أبدا. ثمانية أطفال يموتون حرقا في مستشفى، يدخله الناس لا للإسشفاء والتداوي ولكن ليسرّعوا من موتهم بشكل تراجيدي شديد القسوة. السبب جهاز صد الناموس. جهاز قاتل وحارق. الناموس في مستشفى؟ ماذا يفعل هناك حتى يؤتى بجهاز قاتل؟ ببساطة لأن مشافينا مزابل يموت فيها الناس إهمالا ولكن بشرعية؛ أي أن المستشفى لا يحاسب على إهماله. يوم يدخل مسؤولونا للاستشفاء في نفس مستشفيات الشعب سنقول يومها بأننا أصبحنا مواطنين كاملي الحقوق. هنا ندخل لنموت وهناك يسافرون لإنقاذ حيواتهم وحياة أبنائهم وكأن في هذه البلاد أرضين واحدة للفقراء يموتون ويقبلون الموت قدرا، وأخرى لمن لهم الحق في كل شيء. كم من المال خسره الوالي لشراء صمت المحرومين وهو يقترح عمرة لنسيان الحرائق التي ارتسمت في قلوبهم؟ ماذا لو قدم عزاء خالصا لأهالي الأطفال المحروقين بصدق؟ ماذا لو استبق الأحداث وذهب نحو المستشفى وزاره مرة واحدة لتفادي الكارثة؟ ماذا لو وضع هيئة حقيقية تتبع كل ما جرى بالتفصيل؟ سيصل حتما إلى النتيجة التالية: قلة اليد العاملة لأن المستشفى لم يعد يوظف. نقص العتاد الطبي والأطباء ونقص المراقبة الصحية؟ وفي هذه الحالة على وزير الصحة أن يجيب عن المتسبب في المأسأة لأن لدغة الناموس أرحم من الإهمال والتسيب؟ ستكتشف الهيئة أن محيط المستشفى مليء بالأوساخ والقاذورات وغير نظيف وهذا ما يسبب هجوم الناموس وكل ما على الأرض من حشرات ؛ وفي هذه الحالة على البلدية أن تجيب عن سؤال الإهمال. وتصبح مسأءلتها أكثر من ضرورة. قد يكون عزل رئيس مؤسسة أقل ما يمكن فعله. ما حدث جريمة بكل المواصفات ويجب فضحها أمام الرأي العام وعدم الصمت عليها. ولتكن محاكمة لا يدفع فيها الظالم ثمن المظلوم. إذا الموت عاديا ومقبولا كقدر مر، في المستشفيات، فالجريمة، جريمة الإهمال غير مقبولة أبدا. وزارة المالية لم تمنح ما يكفي لتسيير مستشفى وحيد وبائس في الوادي. أية مؤسسة بريئة مما حدث؟ كان يفترض أن تنتقل الحكومة كلها وتشترك مع الناس في مأساتهم القاسية. ولا يستقيم العذر إلا بالاعتذار وإلا بالاستقالة الجماعية والتقدم لتقبل مسطرة القضاء.