مسرحية " الصفقة " قدمها مسرح كاتب ياسين، تيزي وزو، وكتبها الكاتب المسرحي بن عمارة ماحي وأخرجها حيدر بن حسين، العرض، حسب مخرجه، يعتبر لقاء مجموعة من الممثلين يؤدون أو يرتجلون لحظات للمسرح، يجسدون ويؤدون حكاية ممثلين آخرين مسكنهم مرهون عند من هو أقوى منهم، يؤدون ادوار شخصيات تعاني من ضغط من هو أقوى منهم، و لكن في الحقيقة من يمثل من؟ .. الأمر عصبي قليلا، أين نحن من الممثلين و من الأدوار؟ في الواقع هي لحظات مسرحية، لحظات تمثيل بسيطة فقط... العمل دخل ضمن إطار بيداغوجي، حيث خصص المخرج المؤطر دورة تكوينية لممثلي المسرحية حيث أن أغلبيتهم يشاركون للمرة الأولى في عمل مسرحي محترف. و مع كون نص المسرحية لا ييسر تقديمه على الركح فقد اضطر المخرج إلى تفكيكه وإعادة كتابته ركحيا ليتناسب ونظرته الإخراجية المعاصرة وأسس الجماليات التي انتهجها، فجرى على أساس منهجي تجريبي، أولا بالعمل على تأطير الممثلين ، و ثانيا بانتهاج عدة تقنيات التجريب، فبذلك طغت عليه المغايرة و التحديث فأصبح العمل عبارة عن رحلة افتراض و استكشاف قدم فيه المخرج قراءته الخاصة للنص وفق منهج و تصور تقني و جمالي مرتب. في مجمل العمل يتبين أن المخرج عمل على افتراض و اكتشاف عدة حالات إنسانية في مختلف المشاهد التمثيلية، حيث قام بتركيبها ثم هدمها وإعادة تركيبها وهذا لأجل استخراج متغيرات الفعل عند الممثل و أداءه على الخشبة و كذا اختبار التأثير لدى المتلقي. ومن هذا الأساس انتهج المخرج تقنية المسرح داخل مسرح، فالمتفرج يشاهد الممثلين على أنهم ممثلين يدخلون الخشبة بأزياء عادية يومية للقيام بتدريباتهم الروتينية، فقد قسمت الخشبة إلى قسمين: الفضاء الخارجي وهو نفسه الكواليس، مكشوف للمتفرج و الممثل فيه حر، ما عدا في حالات نادرة، أما الفضاء الداخلي فهو المكان المخصص لتجسيد شخصيات العرض، علما انه لا يوجد فاصل بينهما . فقد اتخذت هذه التقنية لتدريب وخلق روح المسؤولية في نفس الممثل. فيما يخص تجسيد العرض فقد استخدم المخرج عدة تقنيات للخروج عن نطاق التسلسل الزمني للأحداث و ذلك بالرجوع إلى تقنية الاستحضار أو ما يعرف بالفلاش باك والتي تستحضر مشهد أو ذكرى ما، وتستخدم لتزويد المتلقي بالعناصر اللازمة لفهم سلوك الشخصيات، و لتجسيدها قام المخرج و الكوريغراف بخلق حركات مشهديه تعبيرية توضح انقطاع الوقت أو الفضاء و العودة إلى أحداث ماضية. كما تم استخدام المنولوج الداخلي في كثير من الحالات و مع العديد من شخصيات العرض. و من خلالها تكونت صور جمالية منسقة، خاصة مع تداخل عناصر السينوغرافيا، التي تمثلت في ديكور بسيط يتكون من طاولة و كراسي موزعة في الفضاء الخارجي مشكلة نوعا من التوازن على الخشبة، كما أنها عبارة عن ملحقات أو إكسسوارات متعددة الاستعمالات للممثل في الفضاء الخارجي، فإما كرسي يستريح عليه في انتظار دوره أو إكسسوار يساعده على ارتجال و خلق حالات واقعية تزامنا و أحداث العرض . أما الإضاءة فتعتبر بمثابة روح السينوغرافيا ، فقد كانت مركبة على حسب تقسيم الخشبة، فنجد إضاءة خافتة ثابتة مخصصة بالفضاء الخارجي و إضاءة خاصة بالفضاء الداخلي، و قد كانت هذه الأخيرة بمثابة لغة فنية مركبة بشكل مدروس لإضفاء دلالة نفسية محددة حسب مجريات الأحداث، فبذلك أبدعت في خلق حالة مسرحية، يعيشها الممثل والمتلقي، بإبراز أجساد الممثلينوتعبيرات وجوههم وفاعليتهم الحركية من جهة، و كذا إبراز الأجواء الدرامية من خلال الألوان ، درجتها و توزيع البقع على الخشبة من جهة أخرى، مما سمح بالاستمتاع بالصورة من خلال تمازج الألوان و أشكال البقع مع الموسيقى التي تماشت والأحداث ، فكانت المحرك الدافع لجسد الممثل في فضاء العرض. أما بالنسبة للممثلين، كما سبق و أن أشرنا من قبل، فان العمل بمجمله دخل في إطار بيداغوجي، حيث اعتمد المخرج عملية التجريب على الممثل الذي هو الأداة المسيرة للعرض و المادة الأساسية للفعل المسرحي، و ذلك لكون جسد الممثل أول ما يلمسه المخرج من اجل مسرحة النص. ومن خلال التطبيق دفع المخرج بالممثل الى البحث في أفكاره و تثبيت معارفه و كذا اكتشاف قدراته الجسدية و الحسية، و قد ساهمت لوحات التعبير الجسدي في ابراز قدرات الجسد كلغة تعبيرية معاصرة تتجاوز الكلام و ترتقي إلى البعد العالمي و الإنساني للجسد، كما أنها أضفت بعدا جماليا للعرض في تداخلها مع مختلف عناصر السينوغرافيا من إضاءة و ديكور و موسيقى لترسم لنا صورة متناسقة و تزامنية مع الحوار و المنولوجات، كما أن الحركات كانت غالبا ما تتعدى الفضاء المخصص للعرض لتخرج إلى فضاء الكواليس، حيث نشاهد الممثلين يقومون بحركات جسدية ابداعية، إما ارتجالية أو محددة، و ذلك تزامنا مع حركة الشخصيات في فضاء العرض. و قد ترك المخرج حرية الحركة في الفضاء الخارجي عن وعي قصد رفع التحكم في مستويات وعي الممثل عقلا و شعورا و كذا هوية و شخصية و ذلك باشتغاله على انه ممثل على الخشبة أولا و من ثم شخصية في العرض ثانيا، دون أن يدخل في اصطناع حركات ميكانيكية لا شعورية، و هذا ما سعى إليه آرتو و غروتوفسكي في منهجيهما. والتجريب في "الصفقة" كان أولا و قبل كل شيء لغرض التعمق في قدرات الممثلين وكذا إعطاء العرض بعدا آخر أكثر من كونه نص تدور أحداثه حول صفقة على حوش عادي وسط المدينة، إنما حوش الفنانين حيث تكمن حياتهم، مسكنهم الذي نمت فيه روحهم، خشبتهم التي احتضنت إبداعهم ، نعم يمكن أن تكون نفسها تلك الخشبة و ذلك المسرح و الصرح الذي يحتضن كل مبدع محب للفن و الحرية. حوش كل الفنانين مهما كانوا، بكل صفاتهم، قدراتهم و تناقضاتهم ...و لكن ... ماذا يمكن لكل واحد منهم أن يقدم لهذا الفن و لهذا الحوش؟ و إلى أي مدى يمكن لهم أن يضحوا من اجله و من اجل قيمه؟ ، و في الأخير، الرسالة كانت واضحة و النتيجة أوضح، جملة واحدة: "حوش الفنانين ليس للبيع".