دعاني السيد المدير الجهوي السابق للمشاركة في تنشيط ندوة حول الأغنية الوهرانية مع نخبة من فناني و مثقفي وهران، فوجدتني محرجا أمام هذا التكليف الذي هو تشريف في الحقيقة.، فما أنا باحث مُلمّ بالموضوع، ولا أنا متخصص دارس للموسيقى متعمق في تشريح طبوعها ومقاماتها، ولكن صلتي بهذا اللون الغنائي خصوصا بالألوان الغنائية عموما منذ أواخر الستينيا ، و تعاملي الطويل كشاعر و ككاتب كلمات مع عدد كبير من الملحنين و المغنين على الصعيدين الوهراني الوطني، ربما يشفع لي عدم ترددي في قبول تلك الدعوة، لأن الخوض في مثل هذه المواضيع يحتاج إلى الدراية والمعرفة والاعتداد بمصادر ومراجع و الاستقصاء و الدقة في الأبيض المتوسط، كانت ملتقى للحضارات ومنطلقا لموجات فنية على الصعيدين الداخلي و الخارجي.نقل الحقائق بتثبت ودون تحريف أو تزييف، والتأريخ للأغنية الوهرانية من مسؤولية المثقفين المؤرخين والباحثين حفاظا على تراث مدينة متوسطية هي من أعرق مدن البحر . و عن معلوماتي في هذا الموضوع فقد استقيتها من مراجع و مصادر متنوعة تتفق أحيانا،و تختلف أحيانا أخرى، فضلا عن العلاقات التي ربطتها برجال الميدان بدءا بأحمد وهبي و بلاوي الهواري، و رحال الزبير و طيبي الطيب وكريم الهواري و قويدر بركان و المكي نونة و عمرو بليلي و الجيلالي عين تادلس وولد الخالدي و عمرو وحيد و بوزيد الحاج ...وبوتليليس و بوتبنة و سعيد بوعرفة و سعيد و الصايم الحاج و بارودي بن خدة و قويدر بوزيان ........الخ.فلكل واحد من هؤلاء دراية و لو مقتضبة ، بتاريخ الأغنية الوهرانية. و قد ارتأيت أن أبوّب الموضوع كما يلي: الأغنية الوهرانية حسب مفهومي هي ذاك الفن الغنائي الموسيقي الذي تغنى به الوهرانيون ومن جاورهم من فناني حواضر القطاع الوهراني، حسب التقسيم الإداري الفرنسي القديم منذ العشرينيات ، في طابع بدوي يعتمد أصلا على القصبة و« الڤلال" ، ليتدرج شيئا فشيئا إلى الدف الناي والطبل و الدربوكة مع الاعتماد فيما بعد على آلات حديثة عصرية. و الخاصية الأخرى التي تميز الأغنية الوهرانية عن الطبوع الأخرى تتمثل في اللهجة و الإيقاع، فللهجة الوهرانية خصوصية من حيث المفردات و النطق، إذ نلاحظ الاعتماد على فخامة الحروف التي تعتمد على تعدد المخارج الصوتية، مما يملأ الفم و يكسب الصوت نبرة مميزة ، و نكهة لا نجدها إلا عند الوهرانيين حصريا، و تؤدى بصوت غليظ ذي حنجرة مبحوجة. و بالعودة إلى القصائد المغناة نتأكد من هذه الميزة التي أصبحت تميزا، ميز شعراء البادية عن شعراء الحواضر و المدن فعند الأولين خشونة و فخامة ، عند الآخرين لين و عذوبة و شعراء الملحون الذين نهلت منهم الأغنية الوهرانية في بداياتها معروفون بالخلفية الثقافية و الدينية و الاجتماعية التي صقلت مواهبهم و تحكمت في توجهاتهم. يجمع المؤرخون و الباحثون أن بدايات الأغنية الوهرانية تعود إلى العشرينيات من القرن الماضي، في طابع بدوي يعتمد فيه على الآلات التقليدية من طبل و ڤلال و قصبة، و مثل هذه المرحلة و بعدها شعراء مؤدون من أمثال الشيخ حمادة الذي سجل عددا من أغانيه بألمانيا سنة 1924 و الشعراء عبد القادر الخالدي ومصطفى بن إبراهيم و ابن يخلف بوطالب و قدور بن سمير و سيدي لخضر بن خلوف و الشيخ سعيد و الشيخ بن قابلية و الشيخ الطيب السيقلي و كحول " قالوا وهران زينة " و الشيخ خطاب و بوطيبة السعيدي. كان هؤلاء المنهل الذي نهل منه المغنون أعمالهم الفنية، و يأتي الرمزان بلاوي الهواري و أحمد وهبي على رأس القائمة فضلا عن هجيرة بالي ، إن اكتفت بستة أعمال فقط خلال مشوارها الفني، و مريم عابد و محمد بن زرقة و أحمد صابر و سالمة و مهدية دون أن ننسى اسهامات موريس مديوني و الشيخ قدور ، و ليلى بونيش و جلول بن داود و« رينيت "الوهرانية ، وهؤلاء من الطائفة اليهودية التي تشبعت بالثقافة العربية بحكم المولد و النشأة، كما لا ننسى أعمال علي معاشي و مدى اهتمامه بتوظيف اللون الوهراني في غالب انتاجاته شأنه شأن الميسوم في ألحانه الوهرانية الخالدة التي أدتها كل من المطربة سلوى و المطربة نادية. وهكذا ففي بداية الثلاثينات طهر اللون الوهراني بطابعه العصري متأثرا بالموسيقى المشرقية المصرية على وجه التحديد و الإسبانية و الفرنسية و موسيقى أمريكا اللاتينية بإدخال الآلات العصرية عليه كالقيتارة و الأكورديون و العود و البونجو و الكمان، و يعود الفضل في هذا للمرحوم بلاوي الهواري أولا و للمرحوم أحمد وهبي ثانيا، فهما مدرستان متلازمتان، استطاعتا قولبة هذا الفن في قالب منفرد رغم التأثيرات الموسيقية من هنا وهناك إذا كان احمد وهبي مشرقي الهوى في توجهه، فإن المقام الوهراني بسعة مساحته مكنه من تطويع صوته و موسيقاه بإضفاء الصبغة المحلية الوهرانية على أعماله بروح طربية ، حفاظا منه على أصالة هذا اللون ، أما المرحوم بلاوي امحمد الهواري فهو العميد بلا منازع و يعود له السبق و تعود له الريادة في تحقيق قفزة غير معهودة بحكم ثقافته الموسيقية و احتكاكه المباشر بثقافات غربية عن طريق عمله في الميناء و إشرافه على التنشيط الثقافي و الفني في مقهى والده، كل هذا كون لديه رؤيا مخالفة لما كان سائدا في محيطه ، رسم الطريق لمن جاؤوا بعده و كون مدرسة أصبح لها تلاميذها. إذن هو الذي عصرن الأغنية الوهرانية بإدخال الآلات الجديدة التي ذكرتها من قبل، قد تأثر باللون الوهراني كثير من الملحنين المطربين جزائريين وعربا من أمثال عبد الوهاب الدكالي و بليغ حمدي، رابح درياسة ، الشريف قرطبي و نورة و الآخرون. و الرغبة في التجديد من طبيعة البشر ، وإذا كان في التجديد إبداع و ابتكار يستهوي الشبا ، فهناك من اعترض على هذا مثلما تنص عليه قصيدة " راني محير " لبن يخلف بوطالب ، غير أن بلاوي مثل الأصالة و المعاصرة في آن واحد، لأن تجديده تم عن وعي و بصيرة بضرورة الحفاظ على هذا التراث مع تكوين ذوق جديد مساير لنمط الحياة الاجتماعية والثقافية في ظل استعمار فرنسي وضع الاستلاب الفكري من أولى أولياته و إذا كنت قد عرجت على الرعيل الأول، فهناك جيل جديد يعوّل عليه في حمل مشعل الأغنية الوهرانية بدءا ببارودي بن خدة وريث المدرسة البلاوية و خير ممثليها، و معطي الحاج و سيد أحمد قطاي ممثلا المدرسة الوهبية. و لا يجب أن نغفل أسماء كبيرة لها وزنها في الساحة الفنية من أمثال رحال الزبير و قويدر بركان و عبد الله غربال و باي بكاي كملحنين و حورية بابا و صابر الهواري و شريقي عبد القادر و عبد الله مرسيي و سامية بن نبي و قد تطول القائمة. لا تكاد تختلف أغراض الأغنية الوهرانية عن أغراض القصيدة العربية التقليدية من غزل عدري و مادي و فخر و مدح و مديح و توسل و ترجمة ....الخ لأن الشعراء الذين اتينا على ذكرهم في الأول ، كان لهم إطلاع على الشعر العربي في مختلف عصوره، و أغلب شعراء الملحون عندنا ذوو ثقافة دينية و تقليدية و يطلق على هذا الصنف من الشعراء ( الشعراء الفقهاء). و شعرهم الملحون سمي كذلك بناء على مصطلح اللحن ، و اللحن لغة هو القفز على قواعد اللغة من نحو و صرف، و قد ظهرت هذه الموجة في عصر الانحطاط على وجه الخصوص. نعم ..، تغنت الأغنية الوهرانية بنار الغربة و حرقة الحنين إلى الأهل و الوطن، و عبرت عن العواطف الإنسانية السامية من حب و هيام و تضامن مع البؤساء و المهمشين في الحياة، و تعاطفت مع المقهورين و المظلومين، و نددت بالظالمين المستبدين و صدحت بالغضب و الثورة على ممارسات المستعمر الفرنسي و إن كان تلميحا في بعض الأحيان خوفا من بطش المستعمر و اشتكت من الأوضاع الاجتماعية المزرية من جهل و فقر و حرمان و بالتالي، فقد أدت رسالتها على أحسن وجه إن توعويا و تحسيسيا أو ترفيهيا... يتبع