تعانق الفجر كلما تجلى، وترقب خيوط الشمس الذهبية بخشوع لتنير عصارة ذكرياتها الساحقة، وتعتصر لحلمها القرمزي البعيد، علها تحلق مع النوارس الحزينة التي ودعتها ذات خريف ماطر، آه، ثم آه، كم سحّت عبراتها الفضية لتلك الدماء المخضّبة من أسمال البراءة.. كم عشقت نشوة الرّوح العربية حين تتوق نواميس أحلامها الدافئة لمدينة بيضاء مرصّعة بشموع قزحية، وتئن لمواجع أهلها، وأطفالها الغرباء، وهي تنصت لبكائية النساء الثكالى، وهن يفقدن شاعرية المكان وخضرته ... ذلك المكان الآسر المعبق بحناء سوداء من أياد عربية، محاولة تحرير حلمهن المنكسر.. تجول بناظريها لأفواههن الغائرة، وصرخاتهن المتعثرة، محاولة التنفس من أعماقها ... وا قدساه..!! وا قدساه .. !!وأعلنت لحظتها تكبيل غطرستها المتقطعة شيئا فشيئا، وهي ترتشف ما تبقى من رذاذ قهوتها السمراء، وبصمت الأنثى، تعزف لحن الماضي الجميل، ترتل أناشيد الملائكة كل ليلة، وهي تحضن أشعارها المبتورة دون هوادة، تراقص يراعها بقلب خافق، وتوشح حبره الأحمر بياض الورق البالي .. محاولة الانتصار لذاتها، وتكمل ما تبقى من سيمفونية الدم العربي .. وفي قلب القصيدة تزين كلماتها ... واقدساه .. !!واقدساه.. !! يربكني حزنك الرمادي، وأنا أتعثر بأجساد وأشلاء .. وأعزف لحن الطفولة الضائعة.. وتغشاني صيحات مدوية من أفواه السماء؛ واقدساه ..!! واقدساه.. !! متى تغرد عنادلك الجريحة، وتعتق من أسرها الموحش ..؟ متى ترقص العذراء في خدرها المزركش..؟ ولا يزال الحبر الأحمر ينزف من جرح القصيدة التي لم تكتمل ..! وتعثرت حروفها بين حدائق القدس الندية، حينها أقف متأوهة، تنتشلني جسور الحنين العربي في أرض يباب، تروي دماؤها ظمأ الشهداء .. ولا يزال حبري ينزف دما قانيا، يزين وجه قصيدتي الحبلى، حينها يتعقبني خريف ذكرياتي المتبرجة.. لشهقات الرجال المبحوحة، ولألوان الدّماء التي دنست بياض الأمكنة.. وأرنو لصفحات السماء هنيهة، وأطبق رأسي، وتخمد أنفاس يراعي النازف مرددا آخر صيحاته؛ واقدساه.. !!واقدساه.. !!