يمرّ اليوم 43 عاما على رحيل المجاهد الرئيس الراحل هواري بومدين الذي بقيت مسيرته وأقواله خالدة في ذاكرة الجزائريين إلى غاية اليوم، مع الأجيال التي لم تعاصر عهده الذي دام 13 عاماً (1965–1978)، لكن أحبت مواقفه الوطنية والدولية، فهو صاحب محطات مضيئة أدخلت ثاني رئيس للجزائر التاريخ من أوسع أبوابه، وأبقته في قلوب ملايين الجزائريين حيا بنظرته القاسية على الأعداء والحنونة على أهله وشعبه. في عهده تغيّر كل شيء في الجزائر، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودبلوماسيا، انتقلت معه الجزائر من دولة حديثة الاستقلال تصارع من أجل البقاء إلى دولة فاعلة إقليميا ودوليا. شخصيته سحرت وألهمت الجزائريين ب«كاريزما" ثورية وسياسية وقومية صارمة لا مكان معها لخيانة الوطن أو للفساد، استبقت أفعاله أقواله التي ظلّت خالدة، بعد أن كان أول رئيس جزائري يرسّخ مبدأ أن "الدولة لا تزول بزوال الرجال". كان أول زعيم عربي وإسلامي يفتتح خطابه في الأممالمتحدة ب«البسملة"، وأعطى اللغة العربية مكانتها الحقيقية في بلاده، وحقّقت الجزائر في عهده نجاحات دبلوماسية بقيت راسخة، ودفع بالجيش الجزائري للمشاركة بقوة في الحربين العربية الإسرائيلية الثانية والثالثة، وكان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية وكان من أبرز أقواله الخالدة "الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه هواري بومدين في الحربين العربية الإسرائيلية عامي 1967 و1973. أطلق على الرئيس بومدين العديد من الألقاب من بينها "أسد الجزائر"، "رئيس مكة الثوار"، "الزعيم"، "سيد الرجال"، "أبو الفقراء والمساكين" و«الموسطاش" وغيرها من الألقاب. هذا الرجل ترك وراءه، مواقف خالدة ومشرفة لوطنه الجزائر فيما يتعلق بدفاعه عن القومية العربية والنجاحات التي حقّقتها الدبلوماسية في عهده، وكان من بينها الخطوة التاريخية التي مهّدت للاعتراف الدولي بالقضية الفلسطينية، بعدما دعت الجزائر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى إلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974. والوساطة التي قادها هواري بومدين بين العراق وإيران عام 1974 على هامش اجتماع قادة الدول المصدرة للنفط "أوبيك" بالجزائر العاصمة. بومدين ... أول قائد لأركان الجيش الجزائري في سنة 1958 هواري بومدين واسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة من مواليد 23 أوت 1932 في دوّار بني عدي (العرعرة) مقابل "جبل دباغ"، بلدية "مجاز عمار" على بعد بضعة كيلومترات غرب مدينة ڤالمة. ابن فلاح بسيط من عائلة كبيرة العدد ومتواضعة الحال حسب تصريحات الدكتور محي الدين عميمور في إحدى لقاءاته بمنتدى "الجمهورية" في سنة 2012 وهو يوقّع كتابه "أربعة أيام صححت تاريخ العرب" أن والد الرئيس المرحوم هواري بومدين كان يحبه كثيرا في صغره، ورغم ظروفه المادية الصعبة، قرّر إكمال تعليمه ولهذا دخل المدرسة القرآنية في القرية التي ولد فيها، وكان عمره آنذاك 4 سنوات، وعندما بلغ سن السادسة دخل مدرسة "ألمابير" سنة 1938 في مدينة ڤالمة وتحمل المدرسة اليوم اسم مدرسة "محمد عبده"، وكان والده يقيم في "بني عديّ"، ولهذا أوكل أمره إلى عائلة "بني إسماعيل"، وذلك مقابل الفحم أو القمح أو الحطب، وهي الأشياء التي كان يحتاجها سكان المدن في ذلك الوقت. وبعد سنتين قضاهما في دار "ابن إسماعيل" أوكله والده من جديد لعائلة بامسعود بدار سعيد بن خلوف في حي مقادور، وبعد ثمانية سنوات من الدراسة بڤالمة عاد إلى قريته في "بني عدي"، وطيلة هذه السنوات كان بومدين مشغول البال شارد الفكر لا يفعل ما يفعله الأطفال. لقد كان بومدين يدرس في المدرسة الفرنسية، وفي نفس الوقت يلازم الكتّاب من طلوع الفجر إلى الساعة السابعة والنصف صباحا، ثمّ يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الفرنسية إلى غاية الساعة الرابعة، وبعدها يتوجّه إلى الكتّاب مجدداً. وفي سنة 1948 ختم القرآن الكريم وأصبحَ يُدَرّس أبناء قَريتِه القرآن الكريم واللغة العربية، وفي سنة 1949 ترك محمد بوخروبة (هواري بومدين) أهله مجددا وتوجه إلى المدرسة الكتانية في مدينة قسنطينة معقل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومعقل دعاة العروبة والإسلام. وكان نظام المدرسة داخلياً وكان الطلبة يَقُومون بأعباء الطبخ والتنظيف. وفي تلك الآونة كان عمه الحاج الطيب بوخروبة قد عاد من أداء فريضة الحجّ مشيا على الأقدام، وبعد عودته ذهب إليه محمد (هواري بومدين) ليقدّم له التهاني، وكان هواري يسأل عمه عن كل صغيرة وكبيرة عن سفره إلى الديار المقدسة، وكان عمه يخبره عن كل التفاصيل ودقائق الأمور وكيف كان الحجاج يتهربون من الجمارك والشرطة في الحدود وحدّثه عن الطرق التي كان يسلكها الحجّاج، وكان بومدين يسجّل كل صغيرة وكبيرة، وكان بومدين يخطط للسفر، حيث أطلع ثلاثة من زملائه في المدرسة الكتانية على نيته في السفر وعرض عليهم مرافقته فرفضوا ذلك لأنهم لا يملكون جواز سفر، فأطلعهم على خريطة الهروب وقال: هذا هو جواز السفر. فر من الخدمة العسكرية الفرنسية نحو تونس أما عن التحاق بومدين بالثورة التحريرية المجيدة أكد الدكتور سمير ناصري أستاذ التاريخ المعاصر: "التحق هواري بومدين بصفوف جيش التحرير الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي مباشرة بعد اندلاع الثورة في 1 نوفمبر 1954، بعدما كان قد فر من خدمة الجيش الفرنسي إلى تونس، كانت السلطات الفرنسية تعتبر الجزائريين فرنسيين وتفرض عليهم الالتحاق بالثكنات الفرنسية عند بلوغهم سن الثامنة عشرة. استدعيَ للالتحاق بالجيش الفرنسي، لكنّه كان مؤمنا في قرارة نفسه بأنه لا يمكن الالتحاق بجيش العدو، ولذلك رأى أنّ المخرج هو في الفرار والسفر، وعندما تمكن من اقناع رفاقه بالسفر باعوا ثيابهم للسفر برا باتجاه تونس. ومن تونس توجه هواري بومدين إلى مصر عبر الأراضي الليبية، وفي مصر التحق بالجامع الأزهر، حيث درس هناك وتفوق في دراسته، وقسّم وقته بين الدراسة والنضال السياسي، حيث كان منخرطا في حزب الشعب الجزائري، كما كان يعمل ضمن مكتب المغرب العربي الكبير سنة 1950، وهذا المكتب أسّسه زعماء جزائريون ومغاربة وتونسيون تعاهدوا فيما بينهم على محاربة فرنسا وأن لا يضعوا السلاح حتى تحرير الشمال الإفريقي، ومن مؤسسي هذا المكتب علال الفاسي من المغرب وصالح بن يوسف من تونس وأحمد بن بلة وآيت أحمد من الجزائر، وكان هذا المكتب يهيكل طلبة المغرب العربي الذين يدرسون في الخارج". بوخروبة ... وزيرا للدفاع بعد الاستقلال تلقى بومدين تدريبه العسكري في مصر، قبل أن يصبح أول قائد لأركان الجيش الجزائري، لقد كان عبد الحفيظ بوصوف مع العربي بن مهيدي ولاة يرأسان الولاية الخامسة. وفي عام 1956، غادر العربي بن مهيدي قيادة الولاية الخامسة للانضمام إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وفي سبتمبر1957 غادر بوصوف التراب الجزائري، فتولّى هواري بومدين قيادة الولاية الخامسة، فلقد أشرف بومدين في سنة 1956 على تدريب وتشكيل خلايا عسكرية، بعدما كان قد تلقى تدريبه في مصر حيث اختير هو وعدد من رفاقه لمهمة حمل الأسلحة، ليصبح في سنة 1957 مشهورا باسمه العسكري "هواري بومدين"، تاركا اسمه الأصلي بوخروبة محمد إبراهيم وتولى مسؤولية الولاية الخامسة. وفي سنة 1958 أصبح قائد الأركان الغربية، بعدما تولى قيادة وهران من سنة 1957 إلى سنة 1960، ليشرف في نفس السنة على تنظيم جبهة التحرير الوطني عسكريا ليصبح قائد للأركان، وفي سنة 1962 وزيرا للدفاع في حكومة الاستقلال، وفي سنة 1963 نائب رئيس المجلس الثوري دون أن يتخلى عن منصبه كوزير للدفاع وكمسؤول عسكريّ، هذا الرصيد العلمي جعله يحتل موقعا متقدما في جيش التحرير الوطني وتدرجّ في رتب الجيش إلى أن أصبح قائدا لمنطقة الغرب الجزائري.