يعم مسرحنا الراهن، خلال هذه السنوات، اتجاه شمولي واستثنائي يعنى بتوظيف السرد كأداة أساسية في البناء المسرحي، رغم كون السرد عنصرا نوعيا في التشكيل الملحمي والقصصي. وما يلفت الانتباه ويثير المخاوف أن هذا الاتجاه يكاد أن يتخطى معظم الخصوصيات النوعية للمسرحي وطبيعة ثوابتها الدرامية، ومتذرعا تارة بالتراث وأخرى بالأصالة، وهذا ما ترك العديد من إنجازاتنا المسرحية عاجزة أو مشوهة على المستوى الفكري والتطبيقي دراميا. عرف التأليف المسرحي الجزائري - على سبيل المثال - السرد بأشكاله الاعتيادية الإخبار بواسطة الراوي - إضافة إلى الشروحات والملاحظات التي يدونها مؤلفونا في بداية الفصول والمشاهد، ووصف الزمن والمكان، وكشف طبائع الشخصيات وخصوصياتها كما هو معروف في الدراما التقليدية والعالمية، أما حين هبت رياح التيار الملحمي ابتداء من الستينيات على المسرح العربي، فإن سردا جديدا أخذ يتغلغل في معمار الدراما العربية والجزائرية تأثرا بالتقنيات الملحمية التي تولي اهتماما متميزا بالسرد لأسباب إيديولوجية وفنية ضمن المواقف الدرامية، وما يَسَّر مهمة السرد وحَبَّبَها إلى نفوس الكتاب الدراميين الجزائريين، اعتماد الدراما الملحمية على الراوي الذي يقابله (القوال أو المداح) في المسرح الجزائري في محاكاته للفلكلور والتراث الشعبي . ظهر السارد Le narrateur على الخصوص في المسرح الملحمي في بعض الأشكال المسرحية، بعدما كان مقصيا في المسرح الدرامي، ذلك أن الكاتب المسرحي لا يتكلم باسمه الخاص، إضافة إلى بعض الأشكال الشعبية الإفريقية والشرقية التي استعملته وسيطا بين الجمهور والشخصيات. ❊ شدّ الإنتباه... وإحلال الفرجة والسارد شخصية تعمل على إخبار الجمهور بسرد وشرح الأحداث بصفة مباشرة، ويتولى قص الحكاية ويعمل على شد انتباه المستمعين وإحلال الفرجة، كما يفسر إحساس الشخصية وما يمكن أن تقوله، وما لم تستطع التعبير عنه وذلك في الإبداعات الجماعية والأعمال المسرحية العربية * المنطلقة من الروايات. تتجلى خصوصية السرد في المسرح كون الموضوع قابلا لأن يترجم إلى شيء بصري على الخشبة، باعتراف توفيق الحكيم بصعوبة تمثيل مسرحيات مثل "أهل الكهف" و"شهرزاد"، لأن الفكر هنا هو الفكر المجازي أو الأسطوري بأشخاصه المعنوية التي لا تلمس ولا تصادف في الحياة الواقعية. وإذا كان التمييز بين الدراما والرواية يقوم أساسا على الحوار، فإن هذا التحديد وحده غير كاف للتمييز بين الشكلين الفنيين، وهذا على الرغم من أن الحوار في المسرح الغربي يعتبر أسلوب التعبير الدرامي النموذجي والصيغة الأكثر ملاءمة لتعبير الشخصية المسرحية والأكثر مشابهة للواقع، في حين اعتبرت بقية أشكال الخطاب المسرحي مثل المونولوج والحديث الجانبي والتوجه إلى الجمهور، وحتى نشيد الجوقة غير مطابقة للواقع ومصطنعة، ولا تقبل إلا ضمن الأعراف المسرحية. ذلك أن الحوار في المسرح يقوم بوظيفة تحديد الشخصية والمكان والفعل، كما يبنى أيضا على نظام الدور، أين توجه شخصية ما الحديث إلى شخصية أخرى، فتنصت ثم تجيب بدورها، وتتحول إلى متكلم. ويمكن أن يأخذ الحوار في المسرح عدة أشكال، قد يأتي مثلا على شكل تبادل مقاطع كلامية قصيرة أو طويلة، أو يأخذ شكل حوار متناظر في الطول بين الشخصيتين المتكلمتين، كما يمكن أن يكون تواصلا فعليا بين متحاورين لهما نفس العلاقة بالموضوع الذي يتم الحديث عنه . وعلى الرغم من أن الحوار يعتبر العنصر الأساسي الذي يميز المسرح عن بقية الأجناس التي تقوم أساسا على السرد مثل الملحمة والرواية، فإن هذا لا ينفي وجود السرد ذي الوظيفة الإبلاغية ضمن القالب الحواري، أما المسرح الشرقي فلم يعرف هذا التمييز، لأن القالب السردي ظل هو الأساس والحوار فيه يأتي ضمن السرد، وهذا ما استند إليه برتولد بريخت، أما في المسرح الحديث فقد بدأ الحوار يتراجع ويفقد أهميته، لأنه لم يعد يعبر عن التواصل الفعلي بين الشخصيات، بل إن صعوبة هذا التواصل تشكل أزمة الإنسان المعاصر . ولعل أهم عنصر يميز الدراما هو المحاكاة، لأنها تحاكي أو تعيد محاكاة أحداث وقعت أو يفترض وقوعها في العالم الواقعي أو عالم متخيل، والشيء المشترك بين هذه الأنواع المختلفة من التمثيل هو أنها جميعا حدث محاكى، فالنص الدرامي لن يأخذ بعده الحقيقي إلا بعد تجسيده فوق المنصة، وعكس ذلك هو أدب ويمكن قراءته كقصة، هنا يتداخل الأدب السردي والشعر الملحمي والدراما، ومن هنا فإن العنصر الذي يميز الدراما عن هذه الأنواع الأدبية هو العرض أو التمثيل. ❊ ثنائية البعدين.. الزماني والمكاني وقد عمد الناقد والمنظر الألماني "ليسنج" تحديد الفرق بين الشعر والفنون البصرية من خلال توضيح كيف يعالج نفس الحدث في قصيدة وصفية وفي قطعة شهيرة من أعمال النحت، وعرّف الفنون البصرية بأنها تحدث في المكان دون امتداد في الزمن، بينما القصيدة تتحرك في الزمن وحده دون أي امتداد مكاني. أما الدراما (الحدث المحاكى) الذي يتكشف في الحاضر وفي حضور جمهور من المتفرجين أمام الأعين المجردة، والذي يعيد تمثيل الحوادث الماضية الخيالية أو الحقيقية " فهو فن فريد، إذ يجمع بين البعدين الزماني والمكاني، والدراما بهذا المعنى هي رواية يمكن رؤيتها، بل صورة زودت بالقوة لتتحرك عبر الزمان" . كما يقتصر ظهور السرد في المسرح على بعض الأشكال المسرحية، وبخاصة المسرح الملحمي الذي يعتمد على السارد بصفة متفاوتة، علما أن السارد في المسرح يشكّل نواة اتصال بين السرد والمتلقي علما أنهما عالمان لا يلتقيان في المسرح الملحمي، لأن الكاتب لا يتكلم باسمه على الإطلاق ولا ينبغي وقوفه بين ما هو خيالي وما هو واقعي. لا يتدخل السارد في نص العمل المسرحي باستثناء المقدمة أو الإرشادات المسرحية، أو ما لا تستطيع الخشبة عرضه، فيقوم السارد بوصفه ليجعل المتلقي في موقع الأحداث، وكثيرا ما يعسر وضع حدود فاصلة بين السرد والحدث الدرامي، ذلك أن كلام السارد يكون في صلة وثيقة مع ما يعرض على الخشبة، إذ يتحوّل إلى فعل درامي Acte dramatique تقريبا، ويهتم السارد بمسؤولية الفرجة لأنه يتولى تنظيم مواد الحكاية ويتكفل بإيجاد الحلول الناجعة لمشاكلها، كما يزود المتلقي بالمعلومات والأحداث الضرورية المختلفة. لم يكن استخدام السرد في المسرح محبذا، واللجوء إليه كان ضرورة درامية في المسرح اليوناني والمسرح الكلاسيكي الفرنسي لا مفر منها، لما تتطلبه قواعد الكتابة المسرحية الصارمة من تكثيف لزمن الحدث والتزام بوحدة المكان. لهذه الأسباب تعامل هذا الشكل من المسرح مع السرد حتى عدّ عرفا من أعرافه المسرحية . ❊ بين السرد.. والفعل الدرامي إذا كان السارد في الرواية يشكل جسرا اتصاليا بين السرد والمتلقي، فإن هذين العالمين لا يلتقيان في المسرح الدرامي حيث لا يتكلم الكاتب باسمه إطلاقا، ويقتصر ظهوره على بعض الأشكال المسرحية، وبشكل خاص في المسرح الملحمي، ذلك أن السارد في المسرح عنصر اصطناعي؛ أي أنه لا يتدخل في نص العمل، باستثناء المقدمة أو في الإرشادات المسرحية عندما تقال أو تعرض، أما الحالة الأكثر انتشارا هي حالة الشخص السارد الذي يحكي ما لم يتمكن عرضه مباشرة على المسرح، وأحيانا نجد أنه من الصعب رسم الحد بين السرد والفعل الدرامي، نظرا لأن كلام السارد مرتبط دائما بخشبة المسرح ولأنه يتحول إلى فعل درامي تقريبا، ويتولى السارد المسرحي مسؤولية الفرجة؛ أي أنه القائم على الحفل، المنظم لمواد الحكاية ومقترح الحل لمشاكلها، كما يزود الجمهور مباشرة بمعلومات ضرورية ويخبره بمختلف الأحداث والوقائع. ولا يوظف السرد في العمل المسرحي جزافا، وإنما لتأدية وظائف بحسب طبيعة العمل. ويؤتى به ليلبي ضرورة درامية، تتمثل في تعريف المتلقي بالأحداث القبلية، مثلما يحدث في مقدمة المسرح الكلاسيكي التي تشتمل على سرد يأتي في شكل مونولوج أو حوار تتجاذبه شخصيتان كل واحدة منهما تجهل ما ترويه الأخرى. وغالبا ما يتضمن السرد حدثا من الماضي البعيد أو القريب، يجري خارج خشبة المسرح، إخبارا وإبلاغا عما يحدث في وقت السرد نفسه . وهناك شروط لتوظيف السرد في العمل المسرحي، "مثل إمكانية طوله في المقدمة واقتضابه في سيرورة الأحداث والخاتمة حتى لا يقوض بناء الحدث. هذا وقد يُعرِّف السرد بما يجري بعيدا عن الركح في أماكن أخرى حتى لا تخرق وحدة المكان إذا ما قدم على الخشبة، ومن وظائف السرد أيضا التعريف بالشخصيات وبكل ما يسبق بداية الفعل الدرامي" . ويعد المسرح الملحمي اتجاها آخر لدراما الستينات بالجزائر، نظرا لما تحتويه من مواقف اتجاه القضايا السياسية و الاجتماعية قصد التغيير والتجديد ذي الطابع الثوري، و هو كشكل قصصي لا يتقيد بالزمان، يستخدمه بريخت لتتابع الأحداث الأساسية أو الفرعية دون تعقيدات في الزمان والمكان أو بعقدة أساسية. ويؤدي الراوي مهمة سرد وحكي الأحداث والخلفيات ووصف الشخصيات وتقديم نهاية المسرحية، كما يؤدي دور الرقيب لعقول المتفرجين والكورس لدى كاكي ذو وظيفة اجتماعية يهدف إلى المتعة والتعليم، لأنه الضمير الجمعي للمجتمع، أشبه بشخصية روحية لها انفعالات وتعبيرات متحررة وإخضاع التجربة للجمالية.