أول مقال مطول بثته وكالة الأنباء الجزائرية صبيحة يوم الأربعاء 27 ديسمبر 1978 مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن وفاة الرئيس المرحوم هواري بومدين. وقد شرعت في كتابته قبيل أسبوع ، بعد أن تكرر الخبر التلفزيوني الرتيب: حالته مستقرة و العلاج يتواصل.. من هنا بدأت في التفكير الجدي، بعد أن استيقظ بداخلي وحش الحاسة السابعة التي تلازم عادة الصحفي المحترف كظله. لماذا لا أكتب عن رئيسنا هواري بومدين الآن، خاصة و أنني قمت بتغطية مختلف جولاته الميدانية بولايات الغرب الجزائري؟.هل يحق لي أن أنقب وأفتش في حياته وهو يصارع الآن الداء المستعصي؟. وماذا سيقول المسؤولون عن عملي بوكالة الأنباء الجزائريةAPS حيث أشتغل كصحفي مختص، عندما أبادر بمثل هذه الكتابات المغايرة ، وفي مثل هذا الظرف العصيب بالذات ؟.. وكان أن تغلب الإصرار ليتحدى هاجس التردد. وبالفعل شرعت في الإتصال بعدد من أصدقائه المقربين من رفاق الكفاح المسلح أثناء ثورتنا التحريرية. جمعتني بهم لقاءات منفردة على فترات متقاربة من أيام معدودة. تركت لهم حرية الكلام لإسترجاع شريط الذكريات عن شخصية المجاهد هواري بومدين ، واستعنت بالقلم والورق، لأدون كل كلمة صادقة ينطق بها هؤلاء الأصدقاء المقربون. وهكذا كان وصار، وظلت الأوراق المكتوبة طريحة مكتبي المتواضع، أختلس إليها النظر من حين إلى حين، وأردد مع نفسي: لم يحن الوقت بعد. فالأحوال الصحية لرئيسنا مستقرة والعلاج يتواصل. كما تخبرنا تلفزتنا الوحيدة الموقرة كل مساء. وفي ليلة 24 ديسمبر1978 قررت أن أكتب موضوعي عن شخصية الرئيس بومدين كما يراها رفاق السلاح. وبالفعل كتبت الصفحات الأولى، ثم توقف القلم عن الكلام المباح، إلى أن جاءت أمسية 26 ديسمبر. فأعدت الكرة من جديد، ونجحت في اتمام الموضوع. وفي صبيحة الأربعاء 27 ديسمبر78 استيقظ المذياع بجانبي على آيات من الذكر الحكيم، ليتقطع صوت المذيع وهو يعلن عن خبر وفاة الرئيس المرحوم هواري بومدين. سارعت بالتوجه مباشرة إلى مقر عملي بالمكتب الجهوي لوكالة الأنباء الجزائرية بوهران، وما هي إلا لحظات حتى كان الموضوع يرسل بواسطة التليكس يومئذ إلى المقر المركزي للوكالة بالجزائر العاصمة. لتبادر على الفور، كنوع من السبق الصحفي، لتوزيعه على المشتركين في الخط الوطني والدولي. حيث نشر في اليوم الموالي بالصحف الوطنية اليومية. وها أنا ذا أعود إليه اليوم والعود أحمد لنشره كاملا بنصه و فصه، كما كتب وقتئذ. في ظل أجواء جديدة وكمساهمة متواضعة في تخليد ذكرى وفاة الرئيس المجاهد هواري بومدين (27 ديسمبر1978) . شخصية بومدين في رأي رفاق السلاح شخصية الرئيس هواري بومدين فريدة من نوعها. فهو مثال حي يحتدى للإنسان الثائر والمناضل. رجل عصامي حنكته التجارب منذ ريعان شبابه، وجاءت الثورة التحريرية لينصهر فيها ويشارك في الكفاح المسلح متحديا جبروت الاستعمار، مواجها الأخطار والأهوال والصعاب بعزيمة ثابتة وقلب مفعم بالإيمان وإرادة صلبة لا تلين. لقد ظل طوال سنوات الكفاح المسلح يقف في الخندق الأول للثورة التحريرية وسط رفاق السلاح الذين عرفوا فيه المقاتل الباسل والوطني الغيور والإنسان المتواضع في آن واحد. و يقدم اليوم عدد من رفاق السلاح شهاداتهم الواقعية الحية للتاريخ عن شخصية هواري بومدين كما عرفوها وخبروها وسط لهيب الكفاح المسلح من خلال هذا اللقاء الذي جمعنا مع عدد من هؤلاء المقربين.. * عبد الله بكاي الإسم الثوري : بن أحمد: عضو المنظمة الوطنية للمجاهدين . كان أول لقاء لنا بالأخ هواري بومدين خلال شهر أكتوبر1955 في منطقة جبالة بدائرة ندرومة ولاية تلمسان. حيث عقدنا أول اجتماع هناك لتنسيق العمليات العسكرية بحضور كل من العربي بن مهيدي وبوصوف والسي الصديق وعبد القادر شنو. ثم تكرر اللقاء بالأخ بومدين خلال الإشتباك الكبير الذي وقع في شهر نوفمبر 1955 في دوار مسيفة بناحية جبالة. وأثناء الفترة التي عشت فيها مع هواري بومدين بالمنطقة الغربية للبلاد كنا جميعنا كالإخوة نقوم بتسطير برنامج العمل بصفة جماعية، كل منا يقدم رأيه واقتراحاته بكل حرية، ونقوم جميعنا بتنفيذ ما سطرناه. وكنا نعرف في الأخ هواري بومدين الرجل الصارم الحريص على تنفيذ الأوامر، وفي نفس الوقت الرجل البسيط والمتواضع، فقد كان يعيش بيننا ووسط المجاهدين والفلاحين لا فرق بينهم، يشاركنا المأكل والمبيت ويقاسمنا الظروف الصعبة. * خالدي الحسناوي الإسم الثوري : فريد عمر: منسق محافظة الحزب بوهران. لقد عرفت الأخ هواري بومدين خلال سنة 1958 في المنطقة السادسة من الولاية الأولى بالجهة الشرقية من البلاد. وإن كنت أسمع عنه قبل هذا التاريخ وبالضبط في أوائل سنة 1956 خلال توجهنا مع مجموعة من المناضلين راجلين نحو طرابلس، من أجل الحصول على السلاح، حيث كانت المخابرات الإستعمارية كثيرا ما تسأل عن رجل طويل القامة أشقر اللون ألا وهو هواري بومدين. و أول لقاء مباشر مع الأخ بومدين وقع خلال زيارته لنا في مركز للتدريب العسكري قرب الحدود الجزائرية التونسية سنة 1958 حيث كان يستفسرنا عن أحوالنا الخاصة، وطرق التدريب بهذا المركز. وخلال هذه الزيارة طلب مني شخصيا وأنا ابن العشرين سنة أن أرافقه إلى المنطقة الغربية من البلاد، ولازلت أذكر أنه قال لي عندما أبديت نوعا من التخوف يكفي أنك مجاهد وتعرف الثورة، فالجزائر جزائر الجميع، لا فرق بين شرقها وغربها وجنوبها وشمالها، ورافقته بالفعل واستمرت لقاءاتي به عن قرب. ولا أزال أتذكر حتى اليوم أحاديثه الكثيرة معي، حول تنظيم جيش عصري وضرورة تغذية الثورة عن طريق تجنيد الشباب الملتزم بأهدافها. كانت نظرته بعيدة في أغوار المستقبل حيث سألني مرة عن آفاق ما بعد الإستقلال وعن نظام الحكم وتسيير شؤون البلاد ونظرا لمحدودية نظرتي إلى الأمور وقتئذ، حيث كانت تنحصر في الحصول على الإستقلال كهدف أسمى. فقد غاب عني الجواب واكتفيت بتقديم نظرة بسيطة، وهنا أتذكر جيدا قول الأخ هواري بومدين لابد من إزالة نظام المستعمر لتحل محله سلطة الشعب. وعن شخصية الأخ بومدين يضيف السيد خالدي الحسناوي لقد كان بسيطا في حياته عظيما في أعماله، قوي البداهة ذكيا إلى درجة عالية، عصاميا ومثاليا شغله الشاغل الثورة والتحضير للمستقبل، صبورا إلى أقصى حد لدرجة أنه كثيرا ما كان يشتغل لمدة عشرين ساعة مستمرة عندما يتطلب الأمر ذلك. و كان لا يخالط إلا رجال الثورة، ومن بين أصدقائه المقربين وقتئذ الكاتب المعروف فرانز فانون الذي كان يجالسه من حين لآخر ليتبادل معه الآراء والأفكار. كما كان الأخ بومدين خجولا مختصرا في الكلام متمسكا إلى أقصى درجة بمبادئ الثورة. ولم يظلم أي أحد، حيث كانت ثقته كبيرة في ضباط وجنود جيش التحرير الوطني الذين كانوا يبادلونه نفس الثقة. ولا يتخذ أي قرار مهما كان قبل مشاورة الجماعة والأخذ برأيهم. ومن خلال مجالساتنا العديدة للأخ بومدين، كان يبدو في معظم الأحيان واجما ساكتا. ولعل ذلك راجع إلى الأثر البليغ الذي خلفته فيه حوادث 8 ماي 1945 وهو لايزال في ريعان شبابه. كثيرا ما كان يتحدث لنا عن هذه المأساة التي عرفها الشعب الجزائري من خلال حوادث سطيف وقالمة وخراطة. فقد كان الإستعمار يمثل في نظره صورة مظلمة وقاتمة للقهر والبطش والإستغلال والسيطرة. * مسعود الطويل: محامي وأستاذ جامعي. تعرفت على الأخ هواري بومدين قبيل اندلاع الثورة التحريرية، في أوائل الخمسينات، عندما هاجر إلى مصر، ليس بطلب الدراسة فحسب، وإنما للتكوين العسكري بالدرجة الأولى. وفي بداية الثورة المصرية التي أزاحت حكم الملكية والإقطاع، أتصل الأخ بومدين بالسيد محمد نجيب الذي كان يقود الثورة المصرية وقتئذ وطلب منه السماح للشبان الجزائريين بالتدرب العسكري. وإلى جانب دراسته في جامع الأزهر الشريف، كان الأخ بومدين يوالى تدريباته العسكرية المستمرة، وقد منح أول وسام باعتباره أحد الأوائل في التدريب من طرف السيد محمد نجيب قائد الثورة المصرية في ذلك الوقت. وقد عرفنا عن الأخ بومدين خلال دراسته الطالب المجد والطموح، والشاب البسيط والمتواضع، كان يقضي معظم أوقات فراغه في قراءة ودراسة كتب تاريخ العظماء مثل ماو و نيهرو. إلى جانب دراسة كتاب فلسفة الثورة للزعيم المصري الراحل: جمال عبد الناصر. والمعروف عن الأخ بومدين كذلك أنه لم يشهد الراحة منذ ما قبل الثورة التحريرية، فقد كان يتابع تداريبه ودراسته في الليل، وكيف لا وهو الشاب الذي توجه من الجزائر إلى القاهرة راجلا وسط مجموعة من الشباب. ولما رفض أداء الخدمة العسكرية الإجبارية وسط الجيش الفرنسي. سحبت منه السلطات الإستعمارية جواز سفره، بينما تكلفت الجامعة العربية بضمان بقائه في القاهرة لمواصلة دراسته وتدريباته. وقد عرفنا في الأخ بومدين الشاب المتعطش للثقافة والعلم، حيث كان يرى في ذلك الوقت، بأن الجيل الجاهل لا يستطيع أن يقود ثورة. والشعب الأمي لا يقدر على عمل أي شيء هام. كما كان سلوكه مثاليا في الطاعة والانضباط، واستخدام سلاح الحجة والإقناع. * السيد أحمد سماش / الإسم الثوري : جمال: منسق المنظمة الوطنية للمجاهدين. تعرفنا على الأخ هواري بومدين أوائل سنة 1957 في جبل مطماطة ناحية الونشريس، عندما كان مارا في جولة تفقدية صحبة السيد عبد العزيز بوتفليقة. وعقد معنا اجتماعا لمدة ثلاثة أيام متتالية خصص لكيفية توصيل السلاح للولاية الرابعة، وتنفيذ مقررات مؤتمر الصومام الذي انعقد يوم 20 أوت 1956، تم قام بتفقد الكتيبة العسكرية مشجعا الجنود والضباط بتوجيهاته القيمة، مبرزا اهتمامه البالغ باستمرارية الثورة وحتمية انتصارها. لقد عرفنا في الأخ بومدين الثائر المناضل، والرجل الشعبي، الثابت الإيمان، القوي الإرادة، وكنا وقتئذ ننتظر منه أن يكون شخصية عظيمة للثورة الجزائرية. كما عرفنا فيه الوطني الغيور والمجاهد المحنك، والإنسان المتواضع، يقاسم رفاقه المجاهدين مأكلهم ومبيتهم لا فرق بينه وبينهم، يهتم بجميع الجنود. سريع التنقل في ميدان المعركة. يحرص على نجاح العمليات العسكرية. وقد سهر وقتئذ على تكوين جيش شعبي قوي، بحيث وصل عدد أفراده في ذلك الوقت إلى حوالي ستين ألف جندي. لقد كان سلوكه وسط رفاق السلاح مثاليا، في الشهامة والتواضع، ونكران الذات. لم نسمع منه ولو مرة واحدة كلمة بذيئة أو قاسية. كان بحق الإنسان الذي يقتدى به في سلوكه وأعماله. وبكلمة مختصرة كان أحد الرجال العظام الذين أنجبتهم الجزائر في تاريخها المجيد.