اختار الفيلسوف الطبيب فرانز فانون(1925- 1960) الثورة الجزائرية وطنا كما وضح الأستاذ محمد الميلي في دراسته " فرانز فانون و الثورة الجزائرية " و شرحت الباحثة سليمة كبير في كتابها التعليمي بأنه مفكرا غاص في أعماق الثورة الجزائرية، و لكن "فانون" كان أيضا من نتائج روح نوفمبر، كما يبدو من كتابه " العام الخامس للثورة الجزائرية " الذي يقول فيه " فبعد سنوات خمس لم يطرأ أي تعديل سياسي. ولا يزال المسؤولون الفرنسيون مستمرين في مناداتهم بأن الجزائر فرنسية.لقد عبأت هذه الحرب الشعب الجزائري بأكمله و دعته الى حصر مدخراته و مصادر ثروته و قوته الدفينة، دفعة واحدة. فلم يسمح لنفسه بالراحة، إذ الاستعمار الذي يواجهه ، لم يدع له أية فرصة لذلك." وبهذا الموقف التضامني بأبعاده الاقتصادية و السيكولوجية واجهت إرادة الشعب الطغيان الاستعماري، و لكن لم يمنعها أن تظل في الإطار الإنساني كما يبدو من شهادته التاريخية التي تقارن بين همجية المستعمر بكسر حرف الميم وإنسانية المستعمر بفتح حرف الميم ، فالأول أي الاستعمار أو الاستدمار حسب عبارة الفيلسوف مولود قاسم نايت بلقاسم قام بإعدام" أكثر من ثلاثين مقاتلا وقد طوقوا ثم أسيروا بعد استنفذوا ذخيرتهم وقاتلوا بالحجارة " في قرية بمنطقة " معسكر منذ ستة شهور على وجه الدقة"، وفي المقابل كلفت جبهة التحرير الوطني " طبيبا جزائريا في منطقة أخرى لعبور الحدود لإحضار الدواء على وجه السرعة من أجل علاج أسير فرنسي و إيقاف تطور مرضه ، و قد قتل مقاتلان جزائريان في الطريق لتأدية المهمة ". إن هذه المسافة بين طغيان الاحتلال و إنسانية ثورتنا ستبرهن بأن" الأجيال المقبلة ليست أكثر لينا ولا أشد عياء من تلك التي فجرت الكفاح"، لأن قطيعة نوفمبر مع الجزائر القديمة جعلت الأطفال رجالا و النساء أبطالا و الثوار رموزا للوعي الوطني، لأن الكفاح على مستويات مختلفة يجدد حضورهم من خلال " الأساطير و المعتقدات وقابلية الشعب للانفعال. لذلك فإننا نشاهد في الجزائر استئنافا لمسيرة الإنسان"، لأن قوة الثورة مصدرها ذاك التحول الجذري الذي حدث لدى الشخص الجزائري، عندما قاوم سياسة الإدارة الاستعمارية في تحطيم هويته و أصالته. و يكون من الطبيعي أن تلقي الجزائر"الحجاب"، لأن الممارسة الثورية كفيلة بحل المسائل التي تطرحها،فالمرأة المحجبة اشتغلت كضابطة اتصال أو ناقلة منشورات أو عينا يراقب و يحمي مجاهدا وهو يغير مكانا ما، و لكن دواليب الكفاح الثوري انتقلت الى المدنية الأوروبية، فسقط " رداء القصبة الواقي وستار الأمن الذي يكاد يكون عضويا و الذي تنسجه المدينة العربية حول المواطنة الأصلية"، فتّم التخلي عن الحجاب ليرفع صوت الجزائر بين القرى و المدن بلغة جديدة جردت" اللغة العربية من صفتها المقدسة " و جردت " اللغة الفرنسية من مقولاتها الملعونة"، بفضل راديو الجزائر الحرة . لقد كان صاحب " معذبو الأرض" الكتاب الأخير لفانون ملتزما بالتفكير في المسألة الثقافية ودورها في التحرر الوطني،لأن" محو الاستعمار، كما نعرف، هو عملية تاريخية ، أي أنه لا يمكن و يفهم و لا يمكن أن يعقل، و لا يمكن أن يصبح واضحا لنفسه ، إلا بمقدار إدراك الحركة الصانعة للتاريخ التي تهب له شكله ومضمونه". تلك الحركة التي بدأت مع نوفمبر أو بالأحرى تجسدت فيه من خلال تراكم النضال الوطني و محاولاته في بناء ذات جزائرية تواكب التقدم الأوروبي و في الوقت ذاته لا تتجاهل تاريخ جرائمه لعلها تتجنب الوعي الزائف الذي يعيقنا عن فهم الواقع الاجتماعي، فنهتم بالشكليات و نتجاهل حقيقة تعميم ثقافة العصور الوسطى و استمرار الكتلة الكبيرة من الناس في الحياة على وتيرتها.