التراثية والحداثية تصنيف زمني غير منطقي وغير مُنصف للشِعر العربي،فالزمن متغير،ومعيار الحداثة والقِدم متغير أيضا،فالحديث سيصبح قديما،والقديم كان حديثا في عصره،وليس من المنطقي رفض النص الشعري أو قبوله نظرا لقِدمه أو نظرا لحداثته،ولا بد من اعتماد معايير أخرى،كأنْ يُنظر إليه مِن حيث مدى استجابته للشروط الأدبية الأساسية: كالسلامة اللغوية،والوزن والإيقاع الموسيقي،والعاطفة الجامحة،والانفعال الداخلي،أو ما يُسمّى بالتجربة الشعورية للشاعر،والمشاركة الوجدانية، والقدرة على التأثير في المُتلقي،ومخاطبة عقول الطبقة المثقفة من الناس، وإحداث خلخلة في المفاهيم والقيم السائدة في المجتمع،لأنّ الشعر منذ القِدم صاحب رسالة وهدف، فمنذ العصر الجاهلي كان الشاعرُ ساعيا بشعره للدفاع عن قبيلته والذود عن حماها، كما كان مُعبّرا بحرارة وصدق عن خلجات قائليه، فالشعرُ بوصلتُه القلبُ وأحاسيسُه، وهو الذي يهَبُنا الإحساسَ بوجودنا، ويجعلنا نعيش الحياة مرة أخرى؛ لأنه كما يراه (هدسون) سجلّ حيّ للحياة. ويرى (تي. إس. إليوت) أنّ تحديد عظمة الأدب لا يمكن أنْ تتم بالمقاييس الأدبية وحدها، بل لا بدّ من تدخّل التجارب والقيم التي يختزنها ويُعبّر عنها. وإذا كان لا بد مِن تجنّب المباشرة في الشِعر فليكن بقدر معقول، ولا يصل حدّ الإغراق في الغموض؛ يقول الشاعر أكرم قنبس: النص المغلق هو نتاج نفسية مغلقة. ويرى الدكتور وليد قصّاب أنّ الغموض السلبي يقيم جدارا صفيقا بين الشعر وجمهوره، ويرى الشاعر بلند الحيدري أنّ الغموض المقيت يقطع الشعر عن جمهوره العربي. وإذا كان لا بدّ مِن شيء من الغموض فليكن بهدف تحدّي عقلية المتلقي واستثارتها، وألا يخلو النص من إشارات ومفاتيح تقود إلى المقصود وشوارد المعاني، يقول الدكتور إبراهيم الوحش: إنّ الانغلاق في القصيدة ليس عيبا شريطة أنْ تتوفرَ له المفاتيحُ التاريخية والدينية والأسطورية؛ فالشعر القديم تضمّنَ انغلاقًا سُمِّيَ بالمعاظلة. فإنْ كان المتنبي يستمتع بانشغال الناس في تفسير ما يكتب لقوله: " أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الناس جرّاها ويختصموا " فإنّ شعرّه لم يكن مُغلقا ولا طلسما، فهو الذي يُمتِّعنا حين يقول واصفا معركة (الحدث الحمراء):
فبلاغة الشاعر وروعة النظم تلِجُ بنا مباشرة إلى الحال الذي بُنيت فيه قلعة الحدث، وهو: (القنا تقرع القنا) و (موج المنايا حولها يتلاطم). ويُصوِّر لنا أبطال جيش العدو منهزمين مدحورين لا يلوون على شيء، في حين أنّ القائد العربي وضاح الوجه مبتسم الثغر. وجيشه عرمرم يملأ الأرض، تصدر عنه زمازم تقرّ في أذ ن برج الجوزاء، وهي جلبة ناجمة عن أصوات غير مفهومة على وجه التحديد؛ لأنها خليط من أصوات الجند وقعقعة السلاح ووقع حوافر الخيل. وهكذا فإن غرابة بعض الألفاظ في شعر المتنبي لا يلبث أنْ يفك (شيفرتها) السياقُ ليقودنا إلى استيعاب جماليات الصورة. وإذا كان الحداثيون يشغلون أنفسَهم كثيرا بظاهرة الانحراف الدلالي، وهي ظاهرة تقوم على خروج اللفظة عن معناها الحقيقي إلى معنى مجازي جديد، فإنّ هذه الظاهرة ليست غريبة عن أشعار القدماء، ألا يتضمن شعرُ المتنبي انحرافات دلالية؟! ألمْ تنحرف كلمتا (موج) و(يتلاطم) عن معناهما الحقيقي؟! فالموج أصْلا لماء البحر، و (التلاطم) لماء البحر أيضا، ولكنهما في أبيات المتنبي السالفة استعمِلتا مجازا للمنايا التي شبّهها الشاعر بالبحر، والقرينة التي تقودنا إلى ذلك قوله: (والقنا تقرع القنا)، فتقارُعُ القنا يعني تصادُم السلاح، وهذا يستلزم مزيدا من الموت الذي طغا موجه الطامي كطغيان موج البحر المتلاطم.