الطوارق..؟ لعلهم من بين آخر المختلفين القليلين المقاومين الذين لم يستسلموا بعد،ولم يذعنوا للمرور عبر ماكينة صنع البشر،متشابهين في المأكل والملبس والمسكن والمقتل. لم يذعنوا بعد،ولم ينصاعوا للشكل الموحَّد. مازالوا لم ينضّوا عنهم أثوابهم الزرقاء ولثامهم الذي تبقّى من تاريخ وجودهم منذ خمسة آلاف سنة. ومازالت نساء الطوارق الحرات يقاومن -بصمت وعمق- آلة التسليع العمياء،كي يفلتن من مملكة البوتوكس والفيلرز ومباضع جرّاحي التجميل والتقبيح. كي يبقين وفيات لملكتهن (تينهينان) ملكة الطوارق الأولى ولانتمائهن لها،تلك التي أندغم وجودهن بوجودها كتاريخ وأسطورة وأنوثة وشجاعة وسحر. الطارقيات لم يخلعن بعد (تينيهينان) من تفاصيل يومياتهن،ومن أغانيهن،ومن وهج الحكايات التي ينسجنها حولها،لعل هذا ما جعلهن يقاومن ما استطعن زمن تعليب الجسد الأنثوي وترعيبه وترهيبه. زمن المغالاة في تعريته الكاملة أو تغطيته الشاملة. زمن تسليع الأجساد والأرواح وإخضاعهما معاً لسوق البورصة العالمية. (تينيهينان) جدّة الطارقيات جميعاً،صاحبة الشجاعة والجمال والدهاء والسحر والحكمة والذكاء الثاقب. ألم تستعمل كل ذلك منذ آلاف السنين لتسيطر به سياسياً على منطقة مزدهرة وقتها،ولتحكم عدداً كبيراً من القبائل تنحدر منها جميع قبائل الطوارق في بلدان الصحراء الكبرى الإفريقية، الموزَّعة حالياً بين الجزائر وليبيا وموريتانيا والنيجر ومالي وتشاد.؟ كم حَلَت،ولدتْ روايتها للطارقيات في أشعارهن وغنائهن وقصصهن،ممجِّدات ملكتهن (تينيهينان) وشجاعتها وأوصافها الروحية ومشاعرها وإحساسها وإنسانيتها التي ملكت بها قلوب سكان الأهقار،وجعلتهم ينصِّبونها ملكة عليهم.أغلب الظن أن هذا ما يفسِّر انتقال صفات النبل عن طريق النساء في المجتمع الطارقي الأميسي الذي يجعل نسب الأطفال في العائلات لأمهاتهم،وليس لآبائهم كما هو الأمر في المجتمع الأبوي الشائع. منذ هيرودوت،ومنذ عيون الرحّالة والمؤرِّخين العرب التي لا تنام جفونها عن شواردها،من ابن خلدون، إلى ابن بطوطة،وابن حوقل،والطبري،والبكري وغيرهم،ظلت الطارقية تفرض نفسها على أقلامهم، وعلى ذاكرتهم. تفرض الطارقية وجودها المختلف وحضورها الطاغي،فتتميز عما رأوه من قبل من نساء في مجتمعات أخرى ربما لم يجدوا فيها ما يذكروه عنهن. كل مَنْ حاول التأريخ لمجتمع الطوارق أو تفكيك معطياته وفهمه توقَّف حصانه وجمح عند أقدام المرأة الطارقية. كيف لا،وقد سجل المؤرخون أن الطارقية كلما لاح طيف ضيف قادم من العائلة أو عابر ضاعت به السبل يقترب من الخيام،كانت أول من يخرج لتستقبله حاملة إناء مليئاً بالحليب تعبيراً عن الكرم؟ استقبال الضيوف وإكرامهم من عادات الطوارق القديمة المتوارثة أمّاً عن جَدّة، وأباً عن جَدّ. والخيام بما ملكت ملك للنساء دون الرجال. سَجَّلَ الرحالة ابن بطوطة ملاحظاته عن الطوارق دون أن يغيب عنه تميُّز المرأة الطارقية وحضورها القوي في مجتمعها، فكتب:".. والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأناً من الرجل. وهم رحّالة لا يقيمون.. ونساؤهم أتمّ النساء جمالاً وأبدعهن صوراً مع البياض الناصع والسمرة..." . نعم. المرأة الطارقية هي مالكة الخيمة، ومشيدتها، وحائكتها بيديها وبصنعة وَرِثَتْها عن جَدّاتها، إنها سيدة المكان بما يحمله من حرمة وروح. وحين تختار الطارقية بحرّيّة شريك حياتها،ستدعوه كي يملك الجانب الأيمن من خيمتها،بينما يظل جانب القلب،الجانب الأيسر لها،ولصندوق جواهرها وأثوابها وأشيائها الحميمية الخاصة. وإذا ما حدث وطلّقت الطارقية زوجها،فإنه هو من سيترك الخيمة لها ولأطفالها. وإن جلوس الرجل في الخيمة في غياب المرأة يُعَدّ أمراً مشيناً. لها -إذاً- ترجع سلطة اتخاذ القرار،حيث تمنحها التقاليد حق التملُّك والتدبير في المجتمع. يحدث أن تقيم المُطَلَّقة الطارقية حفلاً لأن الأعراف تقرّ ذلك،وتعدّ المرأة التي تتزوج حتى خمس مرات رمزاً للأنوثة والخصوبة والجمال،دون أن يوقع الطلاق عداوة بين الأُسَر. بقدر احترام الطارقي للمرأة يزيد المجتمع احتراماً له وتقديراً لرجولته،والأكثر سوءاً أن تُهان المرأة أو تُعَنَّف فما بالك أن تُضرَب. والرجل الذي يخطئ فيفعل ذلك فلن يكون مصيره سوى الإقصاء والازدراء من بقية أفراد المجتمع الطارقي وحتى من أصدقائه المقرَّبين،يبتعدون عنه فيضحي منبوذاً. المرأة الطارقية حافظة التاريخ،ومعيدة إنتاج مكوِّنات المجتمع،هي من تلقِّن البنات والأولاد لغتهم،لغة التيفيناغ. وتعلمهم كتابة حروفها،وتعتني بصقل إناء الذاكرة في غياب الرجل الطارقي المجبول على الرحيل والغياب الطويل قصد التجارة والصيد والحرب.على الرغم من الظروف التاريخية المختلفة التي حاصرت المرأة الطارقية في جغرافيتها وفي خيمتها وفي عاداتها وتقاليدها وفي لغتها،إلا أنها مازالت حاضرة في عالم طغى عليه الفكر الذكوري الذي لا يرى في المرأة سوى جسد بائس للمتعة والتسليع والاعتداء بكل أشكاله. كأن الطارقية بوجودها المختلف تحاول بشموخ أن تنقذ من الانقراض ما تبقّى من النظام الأمومي. كل ذلك بالحفاظ على أعرافها ومعارفها المتوارثة من آلاف السنين،وعلى لغتها، وخطِّها،وموسيقاها،ولباسها،وزينتها،وغنائها،وعزفها،ورقصها،وحكيها،وأشعارها،وأسرارها،وشموخها، وكبريائها،وصعوبة منالها،ووفائها،وحفظ وعدها لرجلها الذي يطول غيابه. أليست هي مصدر المثل الطارقي القائل: «المرأة حزام سروال الرجل»؟ قصائد وقصص كثيرة تروى عن شموخ الطارقية،كالحرّيّة حين تعانق الكبرياء. هذه قصيدة نادرة لمحوديان جرفي ترسم ذلك أترجمها عن ترجمتها الإسبانية: رأيت اليوم سحابة في السماء اللامتناهية مثل منديل أبيض وسط الزرقة يبدو كعمامة على رأس الجبل القاحل ثم رأيت الوادي الموجود قرب البلدة قلت له: يا أخي الوادي، هل تأمل لو أن السحابة الوحيدة هذه تفرغ مياهها في حضنك الجاف؟ ستعود ضفّتك لتعجّ بالعشب وأنا سأبقى ليلة أخرى على الأقل، لترعى بك أغنامي. أجابني الوادي: كم أنت ساذج صديقي محموديان! السحابات مثل النساء، غريبات الأطوار يرمينك بنظرة بحلاوة العسل ثم يذهبن بعيداً، فلا تبقى سوى ذكرى ستجفِّفها الشمس ويذهب الفرح معهن. لكنني لا أمانع السحابة لو أرادت. لتنثر هداياها فوق جسدي العطشان