تواصل سلسلة "تجارب إبداعية" في حلقتها 32 عبورها المدهش في أرخبيلات الثقافة المغربية بقلب مفتوح نحو المعنى. عبور متجدد على مدى سنوات حوّل المدرسة العليا للأساتذة بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، بتأطير محكم من الأكاديمي والأديب عبد الرحيم جيران إلى فضاء سحري لترسيخ قيم الجمال والحوار والاختلاف والربط بين الأجيال والحساسيات. حلقة الشاعرة وفاء العمراني، تميزت بحضور مكثف لعدد من الرموز الثقافية والأكاديمية والسياسية والجمعوية والإعلامية والنقابية والتربوية، فضلا عن الطلبة والباحثين الذين شكل حضورهم نقطة ضوء لافتة تشي بأن هذا الجيل لم يفقد بعد حبله السري مع أدبه، حيث يصر على الاحتفاء بالنبوغ المغربي، لذلك وقف طويلا وصفق بحرارة لتجربة وفاء العمراني الشعرية الممتدة في الزمن والمكان في لحظة استثنائية تفاعل معها الحاضرون وفاءً لشاعرة لماحة راصدة لتحولات العالم. اللقاء الذي أداره باقتدار عبد الأحد الحداد، افتتح بمداخلة رصينة للشاعر والباحث محمد أحمد بنيس وسمها ب«المغايرة في المتخيل الشعري لوفاء العمراني"إنطلق فيها من الأفق الشعري المغاير لتجربتها سواء في بعده الفني أو الجمالي أو الأسلوبي، متوقفا بداية عند أهم انعطافاتها على مستوى ممكناتها اللغوية والتخييلية الخصبة منذ عملها الأول (الأنخاب) الصادر سنة 1991، حيث استطاعت بناء وتشكيل تجربتها والدفع بها قدما لتتاخم حدود المطلق بكل أبعاده الحسية والرمزية والمعرفية، كل ذلك في سياق رؤية شعرية أصيلة يسندها هاجسُ الإنفتاح الخلاق والواعي على روافد معرفية وشعرية في غاية الخصوبة". مقترحا تبعا لهذا السياق، ثلاثة مداخل للاقتراب من تجربتها بدء من "اللغة كعتبة للكشف" المتمثلة في انشغالها بتلك اللغة الشعرية الباذخة التي تمد القول الشعري بدهشة تحول النصوص إلى عتبة، الذي يفضي إلى عوالم بديعة تشتعل فيها الإستعارات والصور وتحلق عاليا، حيث تتحول اللغة إلى أداة جمالية وفنية هدفها نحت متخيل شعري عذب يغرق القارئ في صور شعرية موحية. هذا التفرد، يعود إلى انتباه وفاء العمراني المبكر إلى الممكنات المتنوعة التي تمنحها اللغة في اشتغالاتها المختلفة. أما المدخل الثاني فرص "اشتباك الجسد بالنص"، حيث ألمح فيه الباحث محمد أحمد بنيس، إلى تفرد ونضج تجربة الشاعرة وفاء العمراني في تعاطيها مع الجسد، باعتباره أفقا لتحرر الذات وكسبها معركة الوعي بكل أبعادها الرمزية والثقافية، إذ يشتبك الجسد بالنص في تجربتها ضمن سياق تعزيز فاعلية الذات الأنثوية في مواجهة عالم محكوم بسلطوية ذكورية تخترق الثقافة والوعي، حيث لم يكن الجسد في أعمال الشاعرة مجرد رافد جمالي تؤثث به نصوصها، بقدر ما كان شرفة تطل بها على ذاتها ضمن مشروع لإعادة اكتشاف هذه الذات، عبر تعزيز وعي مغاير بها. في ضوء ذلك، يمكن فهم واستيعاب تلك الرؤية الإغترابية التي تخترق النصوص، محدثة حالة من التشظي العارم، ممثلا في هذا السياق بنصين ‘'أرحبَ من ضيق الماء'' و«أول الحلول" من مجموعة ‘'الأنخاب''، لينتقل تحت هاجس الحفر إلى نص "أوراق الشمس" في ديوان "أنين الأعالي" حيث النفس الصوفي الضاج باحتمالات التلاشي بين الريح أو التحام الجسد بالروح، ضمن سياق وجودي تسقط فيه الحدود بين الشيء ونقيضه. إنها حالة إشراق آسرة، تكتسح النصوص وتُحولهُا إلى حلبة تقارعُ فيها الشاعرة ذاتها وجها لوجه، حيث يشتبك الجسد والروح في التحام رمزي في غاية الدلالة. أما المدخل الثالث والمتمثل في "الحضور عبر الغياب" فقد توقف من خلاله على عملها الأخير''تمطر غيابا''، حيث اختارت الشاعرة أن تعبر بروحها إلى حيث يرقد بسلام شعراء البشرية حين يغادرون هذا العالم، حاملين معهم أرواحهم التي لم يتلفها الصدأ، ويأخذ الأمر منحى مختلفا حين يكون أحد هؤلاء الشعراء شاعرا عربيا في قامة محمود درويش بكل ما خلفه من إرث إبداعي وإنساني ونضالي، ورغم أن هذا العمل هو تحية شعرية وإنسانية إلى هذا الشاعر الكبير، فإن الشاعرة تجعل من غيابه الفيزيقي مدخلا لأمرين اثنين: أولا: إعادته إلينا من خلال نصوصه البديعة التي تستحق الحياة مثلها مثل أشياء كثيرة على هذه الأرض، ثانيا: إدانة الوجود الذي يسمح للغياب بأن يتسيد ويتحول إلى حقيقة وحيدة ترهن الوضع البشري للأبد، وتدفع به إلى تخوم التلاشي الكامل. أما الشاعرة وفاء العمراني، فقد قدمت شهادة صادمة وسمتها ب«صداقة الماء" ننشرها كاملة: "مساء الشعر والمحبة والجمال.. ودامت لكم سكينةُ القلبِ وضوءُ السريرة، وإذاً، التفاتةٌ "قِيمِيَة" طافحةٌ نبلاً، راشحةٌ صدقاً، سيما في هذا المفرق التاريخي المفصلي في ثقافة المغرب، في ظل راهنٍ ثقافي، في معظم ملامحه مُقبِلٍ على الآنيّ، منشغلٍ بالعارضِ، منصرفٍ إلى التصفيق والتهليلِ، أوملهوفٍ على كرسيّ، أو حبيس ظلاميَّةٍ فاتكةٍ، أو أسيرِ تقليديةٍ ناخرةٍ (عدوّنا الأول هذه الأيام) أو حتى مهووسٍ بتجارة الأفكار، على حساب المعاني العميقة لوجود الإنسان: في علاقته الحرة والواضحة سواء بذاته أوبالآخر (المختلف عادةً) أو بالأشياء والعالم من حوله.. في ظل هذا الواقع المؤلم والغريب، الذي يجحف الطاقاتِ والإبداعَ وروحَ الإبتكارِ الأصيلِ، في زمن الصفقات والمتاجرة بكل شيء حتى بالعقل والقلم (الآفة التي وصلت إلى الجامعات أيضا) ما أحوجنا إلى قيمة روحية نبيلة، عُليا: إلى الشعر: صفاء وصدقا وحلما... لهذا كله، وأكثر، أحضر اليوم بينكم، أصدقائي، تقودُني خيوطٌ سريةٌ أجهلُ متى وكيف تأسست، غير أني، بقوّةٍ، أحدسُ حضورها. تغمرني اللحظةُ بفيضٍ من الإسرارِ والانسرارِ دونما حُجُبٍ.. هل أُسِرُّ النجوى؟ إذاً اسمحوا لبوحي المنفلتِ أن يتجدْوَلَ عبر أسمَاعِ حضراتكم، عصفاً حيناً، هدوءاً آخر، في أقاصٍ تَشف وتَشفُّ، لا من الإئتلافِ، لا من الاختلاف، بل من عبق السُّؤَالِ ومَوْجِ الأحوال.. كَيْ أَبُوحَ لا أحتاجُ إلى أن أعرفكم واحدةً واحداً، يبتكرُ المبدعُ أصدقاءه مثلما يبتكرُ الأزمنةَ، الأمكنةَ، الولاداتِ.. ويوماً ما قال زارا أو نتشة على لسان زارا: "لقد طلبَ المبدعُ يوماً رفاقاً لهُ وفتش عن أبناءِ آماله، فأدرك أنه لن تجدهم إذا هو لم يخلقهم خلقا"، عادة لا أتكلم كثيراً خارج النص، عادةٌ آليتُ على نفسي ترسيخها منذ البدايات، آثرتُ دوما أن تُعرِّف بي نصوصي، وتواريتُ عن اللقاءات الصحفية والإستجوابات والتصريحات المجانية... أجَّلْتُ الكلامَ طويلاً إلى أنْ آنَ أوان بعضهِ مع وصول التجربة الشعرية إلى أحد منعطفات نضجها بعد عقدين، والآن بعد ثلاثة عقود ونصف، سأروي فضول بعض الأحبة هذا المساء... أتيتُ من بيتٍ مغربيٍّ عربيٍّ فقهيٍّ (فالسيد الوالد خريج جامعة القرويين وأحد الأعلام المتبحرين في علوم الدين في منطقتي)، كل ما فيه يوحي باختيار واضح مسالم مؤالفٍ، أي بانقياد تقليدي تام... في أفق هذه المهادنة التي بدأت تلوح لي متعبة بأفقيتها، يتسلل هاتف مغرق في الغور، لاجٌّ في السؤال، كي يستنفرني إليه، في الثانية عشرة من عمر لم أدرك وقتها أنه حافل بكل هذا الرحيل، تَتَفَتَّقُ شهوةٌ لم أدرك أيضا أنها هي الأخرى قادرة على كل هذا الإسار. إنها شهوة الكتابة، شهوة المغامرة، شهوة الرفض، شهوة يعرفها، فقط، من خبر"صداقة الماء" واستسلم لحنوّ الحجر، لعلو النجم، لعزلة الشمس... كيف لا وقد أسستْ لها غواياتُ جبران خليل جبران، وهنا أول مرفأ لي بلبنان في سن التاسعة، فبقدر ما كانت تجنحني عوالمُه، وتمنحني هامشاً مغرياً من الحلم، بقدر ما كانت تجلدني كتابات مصطفى لطفي المنفلوطي بتقليديتها، فيما ظلت كتابات مصطفى صادق الرافعي عماداً لغوياً لا يُفحم... مَنْ؟ صوت قلق عنود مِن أَيْنَ؟ من أقصى تخصباتِ الغربة مَا؟ باتجاه صداقة الضوء، صداقة النجم، صداقة الماء... نعم صوت وكفى، لا رجل ولا إمرأة (قَدْ) صوتُ الكائن قبل الإنفصال (وَقَدْ) لم يحدث الإنفصال أصلاً. الهوية: يصعب أن أحدد لي هويةً، خصوصيةً داخل الأنوثة أو حتى خارجَها، ربما لسبب يطوي بي السنوات الأربعين وراءً، حيث داهمتني الكتابة أولاً، فالأنوثة ثانياً، وللحدثِ قوةُ الدلالة وثقلُ الحمولة. نعم، دمُ الحرف كان أسبق لاجتراحي، إختراقي ولانبجاس عبري قبل دم الأنوثة، وكلاهما عُمِّدَ في فضاءٍ مثلثٍ من: الحميمية-الألم-الإنشداه، كلاهما ولادةٌ طلقُها قلق وجعٌ وانتظار..كلاهما، أيضاً، خلاصُه، خَتْمُه ُسكينةٌ ودبيبٌ يُشبه الخدَر... لكن فيما يسري الدم الأول (الكتابة) باتجاه المغامرة، البداية، التأسيس، يماهيه ألقٌ غامضٌ ويحذوه فرحٌ خفيٌّ حفيٌّ ضاربٌ في العتاقة أو قد أورق منها، يسارع الثاني (الأنوثة) ليخط مجرى النهاية والخلاص بكل ما يطيقه ولا أطيقُه من الآلام المجانية. هكذا تُحَدَّدُ هويتي في الثانية عشر فرحاً يحاصره حزن لا يُغادر.. وكأن قدري أن أكون أذكى من أن أسعد.. كأنما السعادة للأغبياء فقط أو الأقل ذكاء... وإذاً إقتحمتني الكتابة قبل أن تقتحمني الأنوثة، تحدِّدُ الهويةُ سلفاً وقبل الإختيار أو القدرة عليه، هكذا أيضا، "لعنتي الأنوثةُ والكتابةُ مجدي".. وعبرهما يتأسس الإسم - الجسد الشعري، وتنهض قامة القلب مكابرةً عاليةً في رحلة الكشف هاته... لهذا لا أقبل بشكل من الأشكال أن يزج باسمي الشعري ضمن بدعة ما يسمى"بالكتابة النسائية".. الإسم: وفاء وكأنها قدري.. الوفاء بلا شرط في زمنٍ شَحَّ فيه الوفاء مثلما شَحَّ الهواء.. الوفاء للهويّة: الكتابة، ورفض أي مستقبل وضعية خارجها، رفض تصوره حتى.. بإصرار وبألوهية، بل رفض كل ما قد يشوش عليها.. (في العمل كما في الحياة الخاصة) الوفاء للمبدأ، غنيت للحرية بمسؤولية ولو بأفدح الأثمان: الخسران والتخلي "العزوف بكل أشكاله، ومن الجهة المقابلة الإقصاءُ والتهميش عقابا.. الوفاء للأصدقاء، فالصداقات النوعية النادرة عبر العالم هي ما يؤسس العمر لديَّ.. الوفاء للقلب واختياراته، ما لم تَمَسَّ هذه الاختياراتُ الكتابةَ أو تشكِّل خطراً عليها...الوفاء للمنبر الذي اخترتُه للنشر بالمغرب(جريدة الإتحاد الإشتراكي-المحرر سابقا) والمنابر التقدمية بصفة عامة داخل المغرب وخارجه". البدايات: الوقت نهايةُ السبعينات، المشهد لا قرار، الساحة الثقافية متخمة ومثخنة ب«السياسي"، الحظ كل الحظ للعبة الخانات وصراع الإنتماءات.. حظوةُ أو حضورُ الجماعي، والإلغاء أو الإقصاء للذات، للفرد... أغادر مدينتي القاسية بحبها "القصر الكبير" شمال غرب المغرب، كانت مدينتي علمية بامتياز، حاضرة وادي المخازن، وموقع معركة الملوك الثلاثة، والشعر والموسيقى والفقه.. قاصدة فضاء الرباط الذي اختارني بقوة سحرية عجيبة لازلت أجهل فك طلاسم أسرها حتى الآن، وأتعرف شيئاً فشيئاً على المناخ الثقافي العام ببلدي، مبدعين، منابر، ملتقيات، وخانات... آلاف علامات الإستفهام ترتسم، عشرات الطرق وكلها غامضةٌ ملغومةٌ التردد.. الإندفاع.. بل التأني كيما تتضح الرؤيا. التمهل في الاشتعال خوف الإحتراق، ليصير التروي إيقاعا لخطواتي الإبداعية بفضل حدس داخلي دوما يقودني.. ومنذ تلك الفترة قال: لا للإحتواء أيا كان شكله أو غوايته... يحل بكُليتي- أنا طالبة الأدب العربي، شاعر كبير، وموقعه في الوجدان والذاكرة الشعريين أيضا كبير.. يحفزني الأساتذة والأصدقاء، فأكاشفَه ببعض ما انكتب عبره.. أطرح أمامه صبيحة ذاك اليوم أوراقي.. هلوساتي، ثم فجأة يخطر ببالي أن ألتقط حقيبتي وأهرب.. يا للجسارة.. من أكون؟.. وقبيل أن أفعلها، يعالجني شاعرنا بجملة انكتبت على أولى صفحات كراستي الشعرية الحميمة، وعلى أولى خطواتي الإبداعية (أحتفظ بالجملة للتاريخ) هي النذر، هي البدء، هي الوعد... بعدها تُعمدني مجلته الرائدة "مواقف" التي كانت تصدر آنذاك ببيروت بخمسة نصوص شعرية تحمل عنوانا: "موج التناقض العذب" والجملة مأخوذة من إحدى قصائدي ليتخطفها مباشرة الملحق الثقافي لجريدة "المحرر"، الإتحاد الإشتراكي الآن، وأنا معتزة بذلك لنوعية قرائه الحداثيين آنذاك.. هنا تبدأ المباهج ومعها المتاعب.. قالوا: تمرس بالكتابة، دراية، تميز.. وإذا إسم مستعار لرجل..! استخسروا فيَّ الأنوثة، وأصروا على المشاهدة، قصيدة بصرية صرتُ..! وجهوا إليَّ الدعوة باتحاد كتاب المغرب، حيث كانت أحلى قراءة شعرية في عمري، تلك القراءة.. الولادة في 5 زنقة سوسةبالرباط (مقر الإتحاد بالرباط) ولدتُ ونشأتُ وترعرعت.. ونموت ولامستُ النضج قبل أن أغادر إلى غربة أكثر وحشة وشموخا... وأتى الشكاكون الفضوليون (جلهم صاروا أصدقائي) يتأكدون، يتهامسون، يستمعون..! قرأتُ.. كانت المفاجأة لي هذه المرة: التحفظ لأنني"إمرأة" أو لي شكلُ إمرأة. استكبروا عليَّ قصائدي (التي مدحوها) وقالوا: هو من يكتب لها. الرجل! بيد أن القصائد توالت ومعها توالى الإيذاء والجرح والمرارة... في أثناء ذلك، قبله وبعده، توالت سنوات العمر بلا استئذان، وتناسيت أنني إمرأة ولي الحق أن أصير أُمّاً لأطفال حقيقيين إلى جانب القصائد حتى نَيَّفْتُ عن الثلاثين.. فكانت أروى إبنتي أجمل قصيدة في حياتي، فآثرت أن أحيا لها وبها ومعها ومنها في مد وجزر على هوى أمواج الشعر وسموه.. حين كنت أخجل أو آنفُ اقتحام الآخرين، مثقفين وأشباههم أو مشاركتهم جلساتهم، أُوسَمُ بالعنجهية أو العجرفة أو "الكبرياء" الذي غدا ميسمي، أو بلغة السبعينيات"بالبرجوازية".. وللإسم وشاية بذلك (العمراني) من كبريات العائلات وذات أرومة من النسب الشريف (القطب مولاي عبد السلام بن مشيش جدي). حين أتحفظ.. يُشكَّك في انتمائي أو موقفي... وإذا ما غالبتني التلقائية وهي طبعٌ لديَّ لا تَطَبُّعٌ، سِيءَ فهمي وناهيكم عن أشكال وألوان وأحجام "الإستقطابات" و«الإغواءات".. أورثتني مواجهاتي هاته حدة في الطبع دخيلةً، وكثيرا من العصبية والشك.. تخلصت من الأولى بعد مراسٍ في المجال الدبلوماسي وتلك حكاية أخرى... لم يكن قط سهلا الإعترافُ، بُذِرَ طريقي شوكاً لا ورداً.. ولم يركز على إبداعي بالقدر الذي تعرض له شخصي و«شكلي" من القراءات ونضح كل إناء بلونه وحجمه ونكهته... من جهتي.. كان الصمود، الإباءُ والكبرياء. أحيانا "اللا مبالاة سلاحاً ضد ما يفسد الحلم" مثلما علمني أستاذي الأول.. كان أيضا سيل من الخسارات.. خسرت أشياء وأحلاما ومواقع.. ومرات كل شيء.. لكن الحدس ذاتَه الذي يقودني دائما، كان يزودني بألغام من العناد والإيمان بوهم جميل.. يوما ما.. طريقي رسالةٌ وعليَّ أن أَجْدُرَ بها.. من أجل ذلك لا يهم كثيرا الخسران.. الأكثر أهمية أن أكسب، باستمرار، نفسي، ونفسي باستمرار... في الأول لم يكتبوا عني، رغم شهادتهم لي لا عليَّ.. في السنوات الأخيرة فقط يُشرع هذا الالتفات، تلك القراءة أو ذاك النقد، لكن في اعتقادي يظل حَيِيّاً وبقدر..أهو الخوف؟ أم..أم هذه الإزدواجية المخربّة لكل شيء جميل في وجدان المثقف العربي؟ ظني لأن لي شَكْلُ إمرأة (لها أو كان لها في شبابها) وذات مواصفات معنية.. ظني كذلك أنني حين سأرحل ستنهال على عملي القراءات.. وإذا الإسمُ، الهيأةُ، الخصوصيةُ: عناصرُ شكلت عوائقَ بَاعَدَتْ، في البداية، ما بيني وبين حضور فعَّالٍ حقيقةً، زمنا وحجماً هو حقِّي.. كانت أستاراً لا مرايا أو نوافذَ... هكذا آذتني الأنوثة.. فيما لم تسعفني.. مثلما يحدث لكثيرات حاليا بكل استسهال تحت تَعِلَّةِ: "الكتابة النسائية" كما يسمونها. وهذه مهزلة أخرى... هكذا أيضا غدا الجسد ناراً لا تضيء بل تَشوي، تُحرِّقُ، تُدمِّي وبلا هوادة.. صعب أن تكون أذكى من أن تسعد.. وكأن السعادة للأغبياء فقط. الكتابة هي"من" منحني الحريةَ. والأنوثة هي"ما"حرمنيها. لا شعوريا، بدأت الرغبة في قتل الأنوثة الجسدية مقابل تأسيس جسدية الكتابة عبر خلق "جسد" في الكتابة الشعرية المغربية والعربية هو جسد الإسم، جسد الهوية، اللغة، التجربة، الخصوصية (الشاعرة)، والقصيدة ما هي في الحقيقة سوى تمتماتِ ذلك الجسدِ أصلاً. على هذا النحو، وبمثل هذا الزخم، بدأت الملامح الجسديةُ الأولى مع شهوية "الأنخاب" (ديواني الأول)، وصوفية "أنين الأعالي" فافتنانا بالأقاصي مع"فتنة الأقاصي" التي شكلت تجربة فريدة في مجال النشر الشعري بالمغرب مع شريط صوتي في ضميمة شعرية متميزة وذات خصوصية.. إلى ما هيأته له في مع"هيأت لك" الذي هو زاوج بين الشعر والتشكيل مع الفنان محمد المليحي أيضا متميزة انتزعت أهم جائزة رسمية في بلدي (جائزة المغرب للكتاب)، إلى "حين لا بيت" مع الفنان محمد البوكيلي ونشر عشية ذهابي للإقامة في دمشق.. ثم حاليا مع"تمطر غيابا"، كتبت في فترة إقامتي بالشام الغالية.. في اشتعال الجسد يتكون إيروس.. إله الحب عند الإغريق، إيروس يحمل في طيات وجوده تناتوس أي الموت. الحب والموت وجهان للغة واحدة هي الجسد. الحبّ إضاءة والموت عتمة، وبينهما تنسج اللغةُ انخطافاتها والجسدُ تاريخَه. للجسد أسطوريتُه، سحرُه وشهويتُه، لم تكن لتتفتح لديَّ في أبهى تجلياتها إلا بالحرف أو عبره.. وكأن السُّرى نحو البدئيّ الغريزيّ لا يتم إلا عبر الروحي السامي المثالي. الكتابة هي"من" منحتني الحرية. والأنوثة هي"ما"حرمنيها... نأتي إلى العالم لا نحمل، لا نملك شيئا ولا حتى حق المجيء، لا نملك منا سوى الجسد عاريا، ما تبقى كله مكتسبٌ: فكراً، عقيدةً وسلوكاً.. وإذاً.. أنتَ جسدُك وجسدُك أنتَ.. أنت عصرُك، موقعُك، تجربتُك، صدفتُك (ولعل أدق ما في الوجود هو الصدفة) كتبت عن هذا بدقة في "أنين الأعالي". لا الذاكرة (الماضي) ولا الغيب يؤسسانك أو يمتلكان وجهتك.. تلك مسؤوليتك في ظل التقليدية الوارفة الناخرة عظمَ الثقافة والتراث العربيين: فكراً وإبداعاً وقراءاتٍ... هكذا كان علي أن أواجهني، كي أواجهني كان علي أن أفهمني، كي أفهمني كان عليَّ أن أكاشفني، علي أكاشفني كان علي الاشتغال على ذاتي كثيرا وبلا كلل.. بسؤال وبغيري تأميْن كيما أستطيعُ أن أتفحصني في المرآة، وبحجمي الحقيقي: تضاريس، نتوءاتٍ، مغاورَ وندوباً أيضا، نحو غمر من التجريب والمغامرة. حضوري بينكم هذا المساء، بكل هذا الانكشاف، وبهذه الصيغة الجديدة، مغامرةٌ في حد ذاته، وخطوة أخرى في طريق مغامرة الإبداعية الكبرى.. طريق به عثرات مثلما به قفزات وتألقات، وأنا أغازل الخمسين بعمر ازدحم بالرحيل والغياب لكل ما هو بهي، أعرف شيئا واحدا هو أنه لو قدِّرَ لي أن أبدأ "النشيد" من جديد لما عزفت غير طريقي المحتدم الحافل الطافح بضوء الجرح.. ولو بالإخفاقات ذاتِها كيما أتذوقُ النجاحات ذاتها... فيما نطقت به أو عبره، مسكوتٌ عنه ظل مستعصياً خفياً أو عجزتُ عن إنطاقه.. بينكم من سيكشفه ولا ريب، لعله ذلك المتلقي المرهف، الصديق المحتمل... واعذروا جرأتي.. ألمي هي هفوةُ الصدقِ أحبائي، ومثلما استمتعتُ كثيرا بالحديث إليكم هذا المساء، أكيد أنني سأستمتع أكثر بالاستماع منكم مستقبلا حول هذه التجربة الشعرية المتواضعة لكن "المختلفة" والتي أطرحها اليوم بين يديكم في كثير من الحبّ... شهادةُ البوح هاته أسميْتُها "صداقةَ الماء" لأن الماءَ وأنا ذاكرتان للمحو، ولأنه وحده القادرُ على أن تَخُطَّ مجراه بنفسه، ربما أشبهه في مسيرتي التي ابتدأت وتشكلت خارج السربِ، خارج المؤسسة، خارج كل نفوذٍ أو احتواءٍ أو دعمٍ..وإمرأة على الرغم....!