كثيرا ما نجد النقاد يبحثون في السيرة الذاتية لهذا الشاعر أو ذاك عن المفتاح السحري الذي تفتح به معاني القصيدة المضمرة أو العصية على الفهم ويرون أن التجربة الذاتية أو الشخصية هي هذا المفتاح بالذات.، ولكن الناقد الأميركي فرنسيس أوتو ماثيسن له رأي مختلف كل الاختلاف في هذه المسألة أبرزه في كتابه الصادر في عام 1935 بعنوان "إنجاز ت.س. إليوت ، مقالة في طبيعة الشعر" والذي ترجمه إلى اللغة العربية الناقد العربي إحسان عباس في عام 1972. يقول الناقد ماثيسن "إن عواطف الشاعر ليست في ذاتها هامة"، ثم يضيف مرددا عبارات إليوت التي سجلها في ملاحظاته عن مسرحية هملت للشاعر شكسبير أن "القصيدة التي يكتب لها البقاء ليست نتاج سكب للعواطف الذاتية إذ أن الطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة إنما تكون بالعثور على معادل موضوعي، وبعبارة أخرى العثور على مجموعة أشياء، على موقف، على سلسلة من الأحداث تكون هي الصيغة التي توضع فيها تلك العاطفة، حتى إذا أعطيت الوقائع الخارجية التي لابد أن تنتهي خلال التجربة الحسية استثيرت العاطفة على التو". ويرى هذا الناقد أن القصيدة تفشل في تحقيق دراميتها عندما يتم الخلط فيها "بين المشاعر الذاتية الخالصة لدى الشاعر والمشاعر الذاتية لدى البطل" أي بطل القصيدة. إن مفهوم البطل هنا يعني رصد قصيدة الشاعر لتحولات ومواقف الرموز أو الشخصيات التاريخية، أو الحضارية، أو الأسطورية، أو الخرافية التي يستخدمها كقناع ويجعل منها الشاهد على العصر. ويعني أيضا أن يختفي الشاعر وراء مثل هذه الرموز أو هذه الشخصيات وينطق بلسانها بما لا يوحي أنه هو الذي يتكلم من خلفها. وهنا ندرك أن صيغة التخلي عن النزعة الشخصية في الإبداع الشعري، أو ما أصبح يدعى في وقتنا بنظرية موت المؤلف التي تسند إلى الناقدين والمفكرين الفرنسيين رولان بارت وميشال فوكو، ليست من تدشينهما بل فقد سبقهم إليها الكثير من الشعراء والنقاد وذلك منذ الثورة على النزعة الرومانتيكية في الغرب، وكذلك في القرن العشرين منهم الناقد المصري الدكتور عبدالغفار مكاوي الذي قام في كتابه "ثورة الشعر الحديث" بدراسة هذه الظاهرة الفنية المهمة وتعقب تمظهراتها في شعر بودلير ونظرياته في الشعر بشكل خاص. وبهذا الخصوص كتب الدكتور مكاوي منذ أكثر من أربعة وثلاثين عاما وقبل بارت وفوكو قائلا بأن قصائد ديوان أزهار الشر للشاعر بودلير "ليست من شعر الاعتراف الذاتي، وليست كذلك من قبيل المذكرات الشخصية التي يسجل فيها الأديب قصة حياته وآلامه"، وأن "الشعر لا يكون شعرا بحقَ حتى يثبت مقدرته على أن يضع القلب في حالة حياد".