أرى أنه لا يمكننا كتابة الذات الجزائرية بصدق، إلا بالفهم العميق لرموزها الكامنة في ذاكرتها الجماعية التي شكلتها عهود من الانتصارات والانتكاسات، فالتوغل في هذه الذات هو الذي يعطي للجهود الإبداعية معنى إنسانيا عميقا. وأعتقد أني أدركت هذه الحقيقة بعدما قطعت مدة طويلة قارئا للأدب وبخاصة الرواية التي منحتني المتعة، وأيضا أفادتها بمعرفة شعوب كثيرة، فمن خلال قراءة أعمال استندال، وبلزاك، وهيجو، وغيرهم، اكتشفت وجه المجتمع الفرنسي، وبمطالعتي روائع دستويسفكي، وتولستو، وتشيكوف، دخلت البيت الروسي، وعشت معاناة شعبه. وقد سمحت لي روايات اشتنباك، وفولكبير، وهيمنجواي، ودوس باسوس، بالولوج في عوالم أمريكا الشمالية، ويمكنني أن أقول الشيء نفسه عن روايات أمريكا اللاتينية التي خلدتها أعمال غارسيا ماركيز وغيره من الروائيين المتميزين. وكلنا نفخر بالجهود الكبيرة التي بذلها نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وحنا مينه وغيرهم، في تسليط الضوء على قضايا المجتمع العربي والمشكلة لمكونات فضائنا الحضاري. وهذه المعرفة التي تحصلت عليها من خلال قراءاتي، علمتني أن روح الشعوب تتجلى في الأعمال الإبداعية القادرة على فهم الذات ورموزها، والغوص في البيئة وخصوصياتها، وهو طموح كل الفنون والآداب. فالخصوصية في الرواية لا تعني الرغبة النرجيسية بحثا عن التميز وبالتالي الانغلاق في عالم لا يؤمن بالاختلاف، ويريد التعايش مع اآمخر، وإنما هي التفتح الواعي على عالم الإنسان وفي المكان الذي أنتجه أي عبر مخاض تاريخ طويل.. صحيح جوهر الإنسان واحد ولكن لكل مكان ذاكرته التي تمنح الذات خصوصيتها. وإذا نظرنا إلى الرواية الجزائرية من هذه الزاوية، نجد أنفسنا أمام نوعين اثنين من الكتابة التي لازالت سائدة في حياتنا الثقافية: النوع الأول: وهو الرواية المكتوبة بالفرنسية، وكانت بداياتها، وانتعاشها أيضا، قبل الاستقلال، وهي منتوج تفاعل حضارتين مختلفتي المشارب، إلا أن الأدباء الجزائريين كتبوا نصوصا تجلت فيها الذات الجزائرية، وأخص بالذكر محمد ديب، ومولود فرعون، ومولود معمر، وكاتب ياسين، وآسيا جبار. ويرجع سبب هذه اللحمة المتينة إلى ارتباط هؤلاء الروائيين بهموم الجزائر عن طريق معرفتهم العميقة للغة اليومية وتشبعهم بالثقافة الشعبية ومعايشة واقع الفئات المسحوقة. والمتأمل في إنتاجهم الروائي، وبالرغم من استعمالهم للغة الفرنسية إلى جانب تأثرهم بالأساليب الفنية السائدة في وقتهم، وبخاصة ما ظهر منها في روايات أمريكا الشمالية، فلم ينفصلوا عن واقعهم الحضاري بل ظلوا أوفياء لطموح شعبهم الذي كان يناضل ضد التواجد الكولونيالي. وبعد الاستقلال، واصل هذا التيار ممارسة الكتابة الإبداعية، وقد برز فيه أدباء كبار منهم بوجدرة، وصنصال، وميموني، وياسمينة خضراء، وغيرهم كثير، وقد تناولوا في نصوصهم أزمات الجزائر وبخاصة جراح التاريخ المعاصر. وكتاباتهم المتنوعة تحتاج إلى وقفة جادة للتعرف على خصائصها وتأمل خطاباتها الصادمة والمثيرة للجدل. النوع الثاني: وهو الرواية المكتوبة بالعربية، وقد حققت قفزة نوعية بالتفاتها إلى الخصوصية الجزائرية متجاوزة الثقافة المشرقية، وقد كان للروائيين المؤسسين الكبار (بن هدوقة، ووطار، وغيرهما) دور مميز في ترسيخ هذا التوجه وهو ما أعطى للرواية نكهة أصيلة، وأذكر هنا أعمال: ريح الجنوب، الجازية والدراويش، والزلزال، واللاز، والولي الصالح يعود إلى مقامه الزكي الخ... وقد اجتهد الجيل السبعيني لكتابة نصوص معبرة عن الواقع الجزائري، وإن ظل بعضهم أسير الثقافة المشرقية بعكس التيار الفرنكوفوني الذي مال كتابُه إلى دراسة تاريخ الجزائر ومكونات مجتمعها، والاهتمام بجراح الذاكرة المصدومة، وإن تبني بعضهم الطروحات اابستفزازية لخدمة المدرسة الكولونيالة. ونلاحظ أيضا أن الرواية الجزائرية وحين حاولت منذ أكتوبر 1988م، ممارسة تحررها في أجواء تعددية من اإلرث السبعيني، غرقت في عالم "السيرذاتية"، وهواجس الواقع المتوتر التي أفرزتها الصراعات الاديولوجية والأزمات السياسية الظرفية، دون النبش في الذاكرة المصدومة للتعرف على جذور الأزمة. ولاشك إن إهمالنا للعلوم الإنسانية وبخاصة الأنثولوجيا التي حاربناها بحجج مختلفة، أثر في المسيرة الإبداعية، وأبعد أجيالا من الارتباط بالمكان وروحه الخفية. إن الرواية التي ترتدي أثواب الآخر، موضوعا وخطابا، متجاهلة الذات الجزائرية، لن نقدم للقارئ أي جديد، ولن تضيف شيئا للإنسانية. أما المعوقات التي تعترض اليوم طريق الروائي فهي كثيرة ومنها: قلة المراجع والمصادر المهتمة بدراسة المكان، وعدم اشتغال النخبة بشكل جدي على التراث الثقافي ودراسة رموزه، فروح اأعجداد لازالت تسري في أعماق الجزائري، وهذا بالرغم من هيمنة الوسائط الاجتماعية المعاصرة التي أنتجتها "عولمة" تعمل على تعليب كل الثقافات لمحو خصوصياتها.