في أغلب الأحيان وبخاصة في لحظة الكتابة أو البحث عن الروح الخفية للوطن المترامي الأطراف، أشعر بأنني أسير ذاكرة مشوشة ومقلقلة. وأعتقد أن الجزائري ومهما كان وعيه التاريخي، يرزح تحت صخور هذه الذاكرة المعطوبة التي لم تعد لنا سندا في تسديد الخطى، وبالأخص بعد تصدع جدار المعتقدات اليقينية والمفاهيم الجاهزة، فنحن اليوم نواجه مخاوفنا الرهيبة بعدما تحولت هذه الذاكرة إلى شبح مرعب حتى بالنسبة إلى المؤرخين والمفكرين الباحثين عن المعنى في مكونات ذاتنا ورموزها. فما العمل أمام هذه المعضلة الشائكة؟ هذا السؤال نطرحه ليس بحثا عن جواب نرضي به نرجسيتنا، ولكن للتعرف أولا على قدرتنا الفكرية للتفاعل بالواقع المستجد الذي ازداد تعقيدا في زمن هيمنة الحاجات المادية وظهور الوسائط الاجتماعية الحديثة التي فككت عرى الروابط التقليدية. ولما فكرت مليا في هذا الأمر المعقد، أحببت أن يكون السؤال كالآتي: كيف نحقق تسوية تاريخية مع "ماضي الأجداد" الذي يسكننا بكل بسحره الغامض، أو مع "الذاكرة المصدومة" (la mémoire traumatique)؟ (وقد استعملت هذا المصطلح الذي استعرته من الكاتب الفيلسوف "بوريس سيريلنيك" (Boris cyrulnik)، لأنني أراه مناسبا لحالتنا). ولأننا لم نستطع تجاوز آثار الصدمات القوية التي تلقيناها خلال عهود طويلة من تاريخنا الوطني، ومنه العهد العثماني وما أكثر وقائعه المغيبة في كتاباتنا التاريخية والإبداعية أيضا، وأذكر هنا على سبيل المثال ثورة "درقاوة" (1802-1810م) التي قادها الشيخ عبد القادر بن الشريف الدرقاوي، وقد ألف عنها الكاتب المؤرخ أبو راس الناصر كتابا يصفها فيه ب"الفتنة"، وردد عنها قول الشعبي وهو الآتي: "وقد خبطتنا فتنة لم نكن فيها أتقياء بررة، ولا أقوياء فجرة". كما كتب مسلم بن عبد القادر عن ثورة درقاوة في مؤلفه "أنيس الغريب والمسافر"، وذكر بعض كسورها التي لم نرممها بالكتابة والإبداع. وطوال العهد الكلولونيالي، وما أقسى معاناته! لم نجرؤ على ذكر الصدمات العنيفة بغرض تفكيكها بعقلانية، وتحويلها إلى تجربة إنسانية مفيدة في التعاش الإيجابي مع الذات أولا، وفي التكيف مع عصرنا الحديث وتحدياته، فذاكرتنا اليوم تعاني من ضربات عميقة لا زالت تؤثر في الذات، ولكننا وللأسف نجهل انعكاساتنا على حياتنا اليومية، ومنها الصدمات التي خلفت فينا تصورات سلبية لم نستطع مواجهتها لأننا نخشى نزع ألغام الذاكرة المصدومة، ونخشى أكثر الكشف عن وقائعها المغيبة، فهربنا منها إما بالتنديد بمظاهرها السطحية فقط، أو بالاختفاء وراء الأفكار المثالية التي تنتجها العقلية التمجيدية أو الفكر الانتقائي. وما أكثر الصدمات التي تفوح منها روائح جراحنا ولكننا نرفض علاجها بجرعات الفكر النقدي المستنير، وإذا كان لرجل السياسة مبرراته وعذره، فما الذي يمنع المثقف من إثارتها والكتابة عنها؟ هل هي الحيرة التي استولت عليه هو أيضا فعطلت لغة تفكيره. لا شك أن استغلالنا للعلوم الإنسانية التي أهملناها مدة طويلة في مدارسنا وجامعاتنا لصالح التقانة والعلوم البحتة، ستساعدنا لا محالة في تسليط الضوء على الذات الحائرة. كما سيكون للآداب والفنون دور هام جدا لولوج عالم الذاكرة المصدومة، والتعامل مع رموزها الكامنة في أعماقها. باللغة الإبداعية التي يفهمها كل الجزائريين سنعطي لأنفسنا فرصة للتعرف على أهم جوانب هذه العزلة المرعبة التي تحاصرنا في تفاصيل حياتنا، ونمنحها قوة التفتح على الواقع المعيش الذي تسري فيه كل أسرار الذاكرة المصدومة.