قصدنا بلدية تينركوك بأقصى شمال ولاية أدرار ،متجهين إلى أماكن تواجد البدو الرحل ،للتعرف والغوص في هذا العالم الروحي الغامض الذي تعايش فيه الإنسان مع الطبيعة القاسية بعيدا عن كل مظاهر التمدن . بعد ساعتين من الزمن وعبر طريق مهترئة وصلنا بوادي المنطقة المحاذية لولايات البيض وبالتحديد بادية "اومينه" التي كانت تستعد لغروب الشمس . توقفنا بمحاذاة قطيع من الغنم يرعى بجوار إحدى الخيم ، وفي انتظار قدوم رب العائلة التي تسكن الخيمة جلسنا لدقائق لنستمتع بمنظر رعي الأغنام تزامنا وغروب الشمس،منظر تتبعناه لحظة بلحظة ، في الوقت الذي كانت فيه الاغنام تهم بالدخول إلى المكان الذي يجمعها والمسمى محليا ب "زريبه " أو " اساراق " ، و الزريبه عبارة عن سياج دائري مشدود بأعمدة قد يحاط بما يمكنه من حماية الغنم من البرد والريح . لفت انتباهنا وجود اكثر من " اساراق " ، اكتشفنا فيما بعد انه يتم فصل صغار الغنم عن كبارها ، ناهيك عن تخصيص واحدة للدجاج . واش خباركم ،مرحبا بكم ،هي أول كلمات قالها لنا رب العائلة الشيخ محمد الذي رحب بنا بحفاوة كبيرة . ورغم قلة الحال والأحوال باعتبار جريدتنا هي الأولى التي تزور البدو الرحل بهذه المنطقة النائية ، قد فتحت الخيمة أمامنا لاكتشافها ، كانت تختصر حياة البدو الرحل ،عدد هائل من الأعمدة الخشبية يعطي للخيمة شكلها المعروف ، فهناك الركايز في الوسط والسوابع ، كما تحتوي الخيمة على باب قبلي نسبة للقبلة يقابله الباب الظهراوي . كانت الخيمة خالية من الأفرشة عدا زربية واحدة يجلس عليها ساكنو الخيمة . لاغنى عن " كسكاس الجريد" وقصعة الخشب يعتمد البدو الرحل على النار في طهي الطعام وتسخين الماء ،ويستعملون أحيانا قارورات غاز البوتان ، حتى وان كانوا يستعملون القدر والطاجين ، فانه لاغنى لهم عن " الكسكاس " المصنوع من جريد النخيل والقصعة الخشبية . عادة ما تجزأ الخيمة إلى قسمين عن طريق قطعة تدعى " لحيال " الذي سمي كذلك كونه يحول بين الضيوف ونساء الخيمة ، كما تحتوي على قسم ثالث يدعى " الخالفه " مخصص لايواء صغار الماشية من قر البرد وحر الشمس ،إضافة إلى اعتباره مكانا للتخزين. خارج الخيمة كان قطيع الاغنام يسير باتجاه " الزريبه " قبل غلقها ، فيما أشرفت الشمس على المغيب فضل الشيخ محمد أن يكرمنا بشرب الشاي ، لم يمنعه المرض والتقدم في العمر من فعل ذلك . لقد ظل متكئا على عكازه ونحن برفقته نتبادل أطراف الحديث . في الليلة الظلماء يغلب نباح الكلاب الأصوات الأخرى قبل أن يخلد الجميع إلى النوم . بحلول الفجر لا يسمع إلا صياح الديك و زقزقة العصافير ، وحينها تبدأ النساء يومهن بإيقاد نار الحطب والوضوء للصلاة وإعادة ترتيب الخيمة . كان لهب النار مصدر الدفء داخلها . وضعت الحاجة مسعوده الطاجين داخل الفرن لتحضير القهوة ،في انتظار تحضيرها جلس الشيخ محمد وأخته بجوار النار بغرض الدفء ، بينما تنهمك زوجته في تهيئة أواني القهوة وتنتظر جاهزيتها باهتمام . تحريك "الشكوة " من يوميات النسوة وفي الوقت الذي كانت تواصل فيه زوجته تحضير القهوة ،ظل الشيخ محمد وأخته جالسين إلى النار قبل ان يلقي نظرة بالخارج . وحين خرج لحسن ابن الشيخ محمد لجلب الماء من الخزان المتواجد بجوار الخيمة ، شيئا فشيئا انبلج صبح يوم جديد . حدثنا لحسن ان عائلته استقرت هذا المكان قبل حوالي شهرين ن فهم لايكادون يستقرون بمنطقة حتى يغادرونها طلبا لظروف العيش التي توفرها الطبيعة والبحث عن مرتع لماشيتهم وإبلهم ، والترحال عادة ما يكون جماعيا مع عائلات استوطنت نفس المنطقة الصحراوية ، في حين بدأت الشمس في البزوغ وقفنا بمعية لحسن نترقب شروق الشمس في صحراء جميلة . ومع إشراق شمس يوم جديد تواصل النساء عملهن كخلية نحل ، هاته تقوم بتحريك الشكوة التي تحتوي على الحليب ، بينما تهم الأخرى بإخراج الدقيق اللازم لفطور الصباح ،في الوقت الذي يوضع الطاجين المخصص لطهي الخبز فوق الجمر ،وداخل قصعة خشبية يتم عجن الدقيق بإضافة ما يلزم ذلك من ملح وماء وغيرهما ،قبل ان يأخذ الشكل الدائري ثم يوضع بداخل الطاجين المخصص لذلك فوق نار حطبية حتى ينضج ويصير جاهزا . في الوقت الذي تواصل إحدى النسوة تحريك الشكوة ،تخرج أخرى " الدهان " وتضعه في صحن بجوار النار ليذوب . في انتظار ذلك يحضر التمر ويوضع داخل القصعة باستعمال قضيب معدني مخصص لهذا الغرض ، وعندئد يسكب "الدهان" داخل القصعة ثم يخلط الخبز والتمر والدهان جيدا ، إنها أكلة " الرفيس " أجل " الرفيس " الأكلة الشعبية البدوية بامتياز ،والتي تقدم للضيوف بمعية اللبن في قصعة موضوعة فوق داخل طبق تقليدي مصنوع من سعف النخيل يدعى "الطبق " . في الجهة الشرقية للخيمة والمخصصة للضيوف أحطنا بطبق " الرفيس " اكتشفنا لاحقا انه أكلة مفضلة لدى البدو الرحل . وكانت الجلسة فرصة للتعرف على حياة البدو الرحل ويومياتهم ومشاكلهم أيضا . لحسن يستعمل لغة خاصة لاقتياد الغنم ويعتبر التعليم عند هؤلاء البدو الرحل أمر أساسي ومقدس ،إذ بمجرد وصول الأطفال إلى السن القانوني يلتحقون بمقاعد الدراسة ،حيث يتم إيوائهم عند أقاربهم بالمدينة الأقرب أو يتم كراء سكن للجدة بأقرب مدينة ويسجلون الأطفال بإحدى مدارسها ن وتتولى الجدة أو العمة أو الأخت الكبرى رعايتهم والسهر عليهم ،ولا يعودون إلا في العطل الموسمية للقاء اهلهم من جديد .وخلال هذه الجلسة البدوية تطرق الحضور إلى مشكل الرعاية الصحية حيث طالبوا بتنظيم زيارات ميدانية لفرق صحية تجوب بوادي تينركوك توفر عنهم عناء التنقل إلى تينركوك وقصر قدور .كما طالبوا بتوفير الأعلاف وتوزيع الحصص كل شهر عوض حصة واحدة في العام ، كما هو معمول به حاليا . يقطن البدو الرحل في الخيم البدوية المصنوعة من صوف الأغنام و وبر الإبل . عادة ما يتم قص صوف الأغنام شهر أفريل من كل سنة حيث يطلق على العملية اسم " الزج " بعد ربط أرجل الغنم يتم قص صوفها باستعمال مقص مخصص ،وتتواصل العملية إلى نهايتها ، ثم يفك رباط الماشية ليتم جمع صوفها بطريقة خاصة . بعد غسل صوف الغنم وتنقيته تنهمك النساء في تحضيره ليصير جاهزا لنسج أجزاء الخيمة ، نعم هكذا النساء في البادية يعملن بكد دوما . حدثنا الشيخ محمد عن جهاده ضد المستعمر الفرنسي ، بالرغم من ذلك فهو لم يبد متحمسا للحصول على بطاقة مجاهد ، لقننا يومها دروسا في الصدق والصبر والقناعة .مشينا رفقة لحسن في طريقه لرعي الأغنام ،قطعنا معه حوالي خمسة كيلومتر في طريق وعر ، كان لحسن يستعمل لغة خاصة لاقتياد قطيع الغنم باتجاه الأماكن التي تحتوي على الكلأ المتمثل عادة في " الرمث " و " السرف " وغيرهما ، طيلة فترة الرعي كان لحسن يحمل عصى بيده يهش بها على غنمه ويتوكأ عليها أحيانا أخرى . 5 كلم للوصول إلى مورد الماء بعد أن سقى القطيع ماء سار لحسن باتجاه إحدى الدواب لاستقدامها ،كانت مربوطة بعيدة عن الخيمة ، كعادته قام لحسن بتجهيز دابته ليكون على أهبة الاستعداد لجر عربة حديدية من عجلتين ثم وضع فوقها أوعية بلاستيكية يطلق على الواحدة منها محليا " شامبيري " لينطلق باتجاه مورد الماء . قطعنا حوالي خمسة كيلومتر قبل أن نصل مورد الماء حيث ملأ الوعاءين بالماء ، وفي هذا السياق طالب لحسن بضرورة تجهيز الآبار الرعوية بالطاقة الشمسية وتزويد الموالين بمضخات للتزود بالماء . بعد عودتنا إلى الخيمة انزل لحسن الوعاءين من على العربة ليرجع دابته إلى مربطها ، وعندئذ تم إفراغها داخل خزانات مائية من بينها خزان صغير تم تغليفه بقطعة قماشية تبلل بالماء ،بعد ذلك توضع في منطقة باردة ليكون مصدرا إلى جانب القربة لتزويد قاطني الخيمة بالماء البارد خصوصا في فصل الصيف . القشابية و البرنوس من صنع اليد تعتمد عائلات البدو الرحل في حياتهم اليومية داخل أعماق الصحراء ،على ما تجود به ماشيتهم التي يوجه صوفها إلى صناعة الألبسة التي تقيهم من برد الشتاء ، حيث تعتبر الجلابة " القشابية "الرداء الأكثر استعمالا من طرف البدويين ،ناهيك عن البرنوس والوالخيدوس ،وهي كلها البسة مصنوعة من مادتي الصوف و وبر الجمال . حيث تتفنن المراة البدوية في حياكتها باستعمال المنسج الخشبي التقليدي ، وتعد أداة " الخلاله " الوسيلة الوحيدة التي تفرض نفسها في عملية نسج الصوف ، ويعتمد عليها في تمرير وتثبيت خيوط الصوف في المنسج التقليدي ،قبل الحصول على لباس " جلابه " التي تكون جاهزة لارتدائها والاحتماء من خلالها من عوامل الطبيعة والاستمتاع بدفئها ن كما تؤكد الحاجة مريم أخت الشيخ محمد . وفي السياق ذاته تكون لأنامل المرأة البدوية دورا كبيرا في حياكة الخيمة البدوية عبر منسجها ،باستعمال مادة "القش" وهي خليط بين الصوف والوبر التي تشكل ازدواجية في الحماية من تساقطات الأمطار من التسرب إلى داخل الخيمة ، فضلا على أنها تشكل واقيا من أشعة الشمس الحارة خلال فصل الصيف ،وتضيف الحاجة ممريم ، ان المراة البدوية تعمل على ضمان الصيانة الدورية للخيمة خلال مختلف ايام السنة ،من خلال صيانتها وترقيعها من حين لأخر . ويشكل طبق الكسكسي الوجبة الهامة في يوميات البدو الرحل بمنطقة تينركوك ،وطلك نظرا لارتباطه بخصوصيات هذه المنطقة الصحراوية ويعتبر سمة للأصالة البدوية محليا ،وله صلة وطيدة بحياة البساطة التي تعتمدها هذه الشريحة الاجتماعية . كما تحبذ بعض العائلات البدوية الأخرى تناول لوجبة " المردود " أو كما يعرف في مناطق اخرى بتسمية البركوكس وهو نوع آخر من أكلة الكسكسي ،غالبا ما يكون ممزوجا ببعض الأعشاب والتوابل التي تزيده نكهة وطعما ،يمنح الجسم شيئا من المناعة لتحمل برودة الطقس ، حسبما أوضحه الشيخ محمد . الترحال علمهم الصبر ومجابهة المصاعب ولا تتجاوز علاقة البدو الرحل بالمحيط الحضري الطابع المناسباتي ،حيث انها غالبا ما ترتبط بحاجة السوق سواء لبيع أو شراء الماشية خلال الأسواق المخصصة لهذا الغرض . كما يتوجه البدو الرحل إلى المراكز الحضرية في أحيان أخرى لاقتناء الحاجيات الاستهلاكية ، خصوصا منها ،الخضر أو بعض البقوليات ، فيما تحقق هذه الفئة الاجتماعية اكتفاء ذاتيا في مواد ،اللحوم والحليب ومشتقاته الأخرى على غرار الزبدة والجبن . ودعنا الشيخ محمد وابنه لحسن بعد ان قضينا يوما كاملا بين هذه العائلة التي كان للكرم عندهم مقام ،وللأصالة عنوان ، حياة الصحراء والترحال علمتهم الصبر ومجابهة مصاعب الحياة . طبيعة عيشهم ومأكولاتهم لازالت طبيعية خالصة ،فلا وجود لأي شيء دخيل غير البغرير والزريزري والرفيس واللبن والكسكسي باللحم ،لايعرفون شيئا آخر فكل شيء إنتاج محلي ،باستثناء الخضر التي يشترونها مرة واحدة في الأسبوع من مدينة تينركوك او بلدية قصر قدور . هي حياة صعبة في نظر الكثير ،خاصة أولئك الذين لم يعتادوا على قساوتها عبر مختلف مراحل حياتهم ، لكنها تبقى في نظر أهل بادية تينركوك وقصر قدور أسمى ملذات الحياة ونشوتها ،وتبقى معها العادات والتقاليد التي توارثوها عن أبائهم وأجدادهم وأسلافهم راسخة عبر عمق الزمن في عمق حياتهم البسيطة .