قال الباحث والناقد الأدبي والمسرحي الدكتور محمد الأمين بحري إن كلمة “أب الفنون” التي ينعت بها المسرح لا تعني الهيمنة أو التحكم أو الجمود والتأطير بل هي تواصل ومد جسور بين الفنون الأخرى. أوضح الدكتور محمد الأمين بحري خلال تنشيطه للعدد السابع والثلاثون من منتدى المسرح، الذي نظم أمس، وناقش خلاله موضوع “المسرح والتبادل بين الفنون..إشكالات الجمود وإكراهات الانفتاح…” أن أي إنتاج فني مهما كان جنسه سواء رواية، قصة، مسرحية، معزوفة موسيقية، فيلم سينمائي، لوحة رسم تشكيلي… ، من تلك المنجزات، ينشأ بين أهل فنه أولاً، ثم يسافر عبر بقية الفنون الأخرى، تستثمر قصته وتكيفها مع آليات وطبيعة الفن النوع الفني الجديد ارتحل إليه، ليكتسب جماهير جديدة تضاف إلى جمهوره الأصلي، مستدلا قوله برواية الدون كيشوت التي بدأت في فن الرواية، لكنها لم تبق حبيسة ذلك الفن بل تم اقتباسها في بقية الفنون وارتحلت في رواج عالمي رهيب، لنراها مسرحية، ثم لوحة فنية تشكيلية، ثم قطعة موسيقية، ثم رقصة باليه ثم منتوجاً سينمائياً وتلفزيونياً ورسوماً متحركة، وحدث لها هذا التلقي العجيب لمجرد أنها ارتحلت من فنها الروائي، لتتجلى في الفنون المجاورة التي استثمرتها فكراً وشخصيات، ومعنى وجودياً للحياة، حتى أن من لم يكن يسمع بها كرواية من قبل صار يبحث عن مصدر إشعاعها الروائي وحقيقة قصتها، فصار الجمهور المتابع للفن التشكيلي جمهوراً إضافياً وافداً وقارئاً للرواية، ومتابع السينما صار من جمهورها كمسرحية وكرواية وكلوحة فن التشكيلي، وكمقطوعة باليه… وهكذا اتسع جمهور هذا العمل وصار العمل عالمياً بامتياز. حين غادر نوعه الذي نشأ فيه فاكتسب جماهير الفنون الأخرى التي تداخلت معه، وصنع عالميته الفنية قبل عالميته الجماهيرية. ..التلاقح بين الأعمال الفنية يمكن أن ينتج عملا فنيا بامتياز أشار الباحث إلى أن الحركية الفنية في الغرب تعلمنا بأن هناك أعمالاً قصصية وروائية فاشلة بالأساس، ولم تكتسب رضى جمهورها حتى في فنها الأصلي لكنها أحياناً تصادف مخرجاً أو كاتب نص، مبدع، فيقتبس أو يستلهم منها عملاً مسرحياً أو سينمائياً يكون سبب رواجها بين الجماهير وبين بقية الفنون، وهذا حدث كثيراً على غرار الفيلم الأمريكي “مُراقص الذئاب – Danse with Wolves” للممثل والمخرج كيفين كوستنر، الذي استوحاه من رواية فاشلة لشاب مبتدئ، وأعاد بعثها في فليم، نالت موسيقاه فقط صدى فاق صدى الفيلم والرواية وأعطاهما صدى عالمياً غير متوقع، والعجيب أن هذا الارتحال للنص عبر فنون أخرى أسهم في عالمية الراوية التي كانت في البدء مهجورة ومجهولة بين جماهير فنها، ليقول بأن تداخل الفنون فإن بعضها ينقذ بعضاً، وتوسع من فئات جمهورها، ليستقطب جماهير الفنون الأخرى… وقد يتسبب هذا التبادل الفني للمادة في صنع صيتها العالمي، وإنجاحها في فنها الأصلي الذي انطلقت منه لذا فإن إشكاليتنا التي تطرح حسبه لماذا لا يحدث تقاطع وتلاقح الفنون عندنا، بحيث يأخذ كل منها بيد الآخر، فنشاهد عناوين، وشخصيات، ومادة فنية عابرة لكل أنواع الفنون؟ وما هي إكراهات التبادل بين الفنون؟ وهل الإشكال في السياسة الفنية المتبعة وآلية التبادل؟ أم في تقاليدنا وذهنياتنا التي رسخت هذه القطيعة؟ كما تساءل عما تقوم به بلدان الغرب بإنجاح المشاريع الفنية حتى الفاشلة منها لتجعل منها عالمية عن طريق تجريب توظيفها في الفنون المجاورة، بينما نرى عندنا أن العمل حتى لو نجح في مجاله الفني فإنه يموت فيه ولا ينتقل إلى غيره، وكأن التبادل بين الفنون بات شيئاً محرماً، واقتباس أو استلهام عمل من نوع فني مجاور فعل مشين ومثير للسخرية، والعلاقة بين الفنون باتت مقطوعة. والتعاون بين هل الفنون معدوماً. أم هو ذلك الاعتداد بالنفس الذي يجعل من كل مختص في مجال فني يزعم أنه زعيم ذلك التخصص ولا يحتاج لغيرة، ولا يسمح بانفتاح عمله على أفق فنية أخرى، ولا يسمح لغير بصمته أن تكون في ذلك العمل، وبالتالي فهو محرم على الفنون الأخرى؟ كما تساءل عن غياب مساهمات الفنانون التشكيليون، والسينمائيون وحتى الشعراء، والراقصون والمصممون، وقادة الأوركسترا، في إذكاء هذا التبادل والتداول الفني بينهم للتعريف بأعمالنا والسير بها في باقي بلدان العالم في التظاهرات التي يشاركون فيها، وذلك باعتبار أن بعض الفنون كالموسيقى والرسم أكثر سهولة في التنقل والمشاركة العالمية من بقية الفنون التي تعرف مشاركتها عندنا صعوبات جمة في تنقلها مشيرا بأن قدر العمل الفني في هذا بلداننا العربية أن يموت حيث ولد بفعل هذه القطيعة الوهمية بين الفنون رغم أن العالم من حولنا يخطو خطوات جبارة في إثراء متبادل بين فنون من جهة وبين جماهير تلك الفنون من جهة، وإخراج العناوين من دائرتها المحلية إلى دوائر عالمية تجعل العمل ناجحاً بكل الطرق والوسائل فقط حين يغادر مداره ويحلق في مدارات فنون مجاورة. ..عالمية الفن تبدأ بالانفتاح المتبادل بين الفنون الأخرى وفي الأخير دعا الدكتورة القائمين والممارسين المسرحين وحتى الجماهير والهواة بضرورة إشراك بقية الفنون وتبادل منتجاتهم ومنجزاتهم كي نراها في أفق فنية أخرى حتى لا تبقى حبيسة مهدها التي ولدت فيه وكي لا تموت فيه، لأن مفهوم العالمية وطريقها يبدأ من الانفتاح المتبادل بين الفنون، ثم بين جماهير تلك الفنون، ثم الانتشار كظاهرة فنية بين دول العالم، قبل أن نعتقد بأن كل فن يستطيع بمفرده أن يصل إلى نجاحه المأمول بمعزل عن غيره، مؤكدا أن هذه القطيعة تقتل الإبداع حين نحبسها في فنونها، فلا تسمع بها جماهير الفنون الأخرى ولا العالم في دول أخرى، ذلك أن سر حياة هذا الفن لا يكمن فيه بل في غيره، مشيرا بأن أهمية الفنون باستثماره جمالياً فكراً واقتباساً واستلهماً ليظهر في حلل متجددة عبر فنون وجماهير عديدة وجديدة.