لا أعرف هل هو قلق مشروع أم دوامة خداع معتاد في صراعات «القارة العربية»، وتأثير الاختراقات والتدخلات الغربية والصهيونية في مساراتها، وصار من الصعب التسليم وتصديق ما يراه المرء أو يسمعه، وغابت الموضوعية المفترضة في المواد الإخبارية والإعلامية في هذه اللحظات الحرجة من التاريخ، التي يعيشها العالم الآن، وفي نطاق الخلاف العربي العربي، فكل طرف ينعت الطرف المقابل بنفس الصفات والتهم، فلغة الحروب الكلامية والنفسية متطابقة، وصلت حد وصف القوات المسلحة النظامية لكل طرف بالميليشيات والمرتزقة، ومعنى هذا اتساع الهوة، وضعف الأمل في تسويات قريبة، وأمامي تقرير بثته شبكة «سكاي نيوز أرابيا» الأسبوع الماضي (18/ 07/2020)؛ تنسبه لوزارة الدفاع الأمريكية بعنوان «البنتاغون عن مرتزقة تركيا في ليبيا: هذه أعدادهم ومكافآتهم»، وأحصى التقرير ما تم تقديمه للجماعات التي وصفها ب«المرتزقة»، فيقول: «أرسلت تركيا آلاف المرتزقة السوريين إلى ليبيا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري»؛ وهذا أول تعليق من «البنتاغون» على أنشطة تركية هادفة لتغيير موازين القوى في النزاع الليبي، و«إصرارها على دعم الميليشيات المتطرفة التي تعمل لصالح حكومة فائز السراج في طرابلس»، وهذا نص ما جاء في التقرير الفصلي بشأن مكافحة الإرهاب في إفريقيا، وصدر في 16 تموز يوليو الحالي (2020)؛ كاشفا طبيعة المكافآت الممنوحة للمسلحين، وتدفعها تركيا، وعرض مَنْح جنسيتها لآلاف «يقاتلون إلى جانب ميليشيات طرابلس المتشددة»!!. وأحصت وزارة الدفاع الأمريكية أعداد السوريين الذين وصلوا إلى طرابلس بين 3500 و3800، فيما قال المرصد السوري لحقوق الإنسان في آخر إحصاء له (17/ 07/ 2020) «استعانت تركيا بأكثر من 16 ألف مسلح من مختلف الجنسيات حتى تاريخه». وحسب نفس المصدر؛ نشرت أنقرة عددا غير معروف من الجنود والمستشارين العسكريين الأتراك في ليبيا في نفس الفترة، وأضيفت إلى ذلك معلومات أخرى عن نقل أجهزة المخابرات التركية مئات المسلحين، ومعظمهم من حملة الجنسية التونسية؛ نقلتهم من الأراضي السورية إلى ليبيا، وأضافت إليهم أكثر 2500 عنصر «داعشي»؛ من حملة الجنسية التونسية كذلك، ونقلت دفعة من غير السوريين، ومن المستقرين في مناطق الاحتلال التركي داخل سوريا، كمناطق درع الفرات»، ومنهم جنسيات من الشمال الأفريقي؛ حسب مدير المرصد رامي عبد الرحمن، الذي أشار إلى مشاركتهم في القتال إلى جانب حكومة السراج ضد الجيش الوطني الليبي، وإن إرسال تركيا الإرهابيين إلى ليبيا «أصبح نهجا عاما لدى أنقرة» على حد قوله!!. واستمرار اللهجة المتبادلة بمستواها المتدني الراهن لا يبعث على التفاؤل أو يشير لانفراج قريب، مع ملاحظة ما ذكر «المرصد» عن قلة تدفق المسلحين السوريين الى ليبيا مقارنة بالسابق، وعددهم الحالي 16 ألفا، عاد منهم نحو 5 آلاف لسوريا، وبلغ عدد قتلاهم نحو 470 عنصرا بينهم 33 طفلا دون سن 18 عاما، ومن عادوا يشجعون العائلات الفقيرة على إرسال أولادهم، إلى ساحات القتال؛ استغلالا لحالة العوز التي تعيشها هذه الأسر، وجرى تجنيد 340 طفلا من قِبَل مسلحين مرتبطين بتركيا في عفرين وفي مخيمات النزوح، مع مخصصات مالية من جماعات مسلحة أخرى؛ كفرقة «السلطان مراد»، ولواء سليمان شاه. وفرقة السلطان مراد؛ فرقة تركمانية، غالبيتها من تركمان سوريا. وهي جزء من تشكيلات «المعارضة السورية المسلحة»؛ المعتَمِدة بالكامل على التمويل والتدريب والدعم الجوي التركي. وهي فرقة أكبر وزنا وأكثر عددا بين الجماعات المسلحة الأخرى الموالية لأنقرة.. أما لواء «سليمان شاه» عبارة عن جيب خاضع للسيادة التركية داخل الأراضي السورية في محافظة حلب، وأثناء الانشغال بالمعارك بين عناصره وبين القوات المسلحة السورية؛ نقلت السلطات التركية ضريح سليمان شاه إلى موقع لصيق على بعد 180 مترًا من الحدود التركية، وقيل أن النقل مؤقت للحيلولة دون تخريبه!!، وإنها خطوة لن تؤثر على الاتفاقيات المبرمة مع الدولة السورية حول هذا الشأن!!. والتصريحات الأوروبية الصادرة تعليقا على الوضع في ليبيا تبين؛ بأنه لا مصلحة لأوروبا «برؤية قواعد عسكرية تركية قبالة دولنا»، وجاء ذلك في حديث الممثل الأعلى لشؤون الأمن والسياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بوريل لصحيفة «دير شبيغل» الألمانية (21/07/ 2020)؛ يرى بوريل؛ الأسباني الجنسية، ضرورة طرح كل الأمور على الطاولة، «ويجب الحديث عن الانتهاكات التركية للقانون الدولي، وعمليات الحفر قبالة سواحل قبرص، ومسألة الغاز ووجود تركيا في سوريا وليبيا»، ويعتقد أنه بوسع المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل التي ترأس بلادها الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، الدفع باتجاه المفاوضات؛ التحدي الأكبر أمام السياسة الخارجية الأوروبية»، حسب تعبيره، ويعترف بتركيا كجار للاتحاد «ولا يمكن تغيير الجغرافيا، كما أنها دولة مرشحة للانضمام إلى التكتل الموحد، وسيبقى الأمر كذلك ما لم يتم اتخاذ قرار معاكس»، وفي النهاية أقر بأن أنقرة تتسبب في مشاكل كثيرة للاتحاد الأوروبي!!، وإذا كان ذلك يعبر عن موقف غالب بين دول الاتحاد الأوروبي من تركيا التي ليست عضوا فيه بعد، فماذا عن موقف حلف شمال الأطلسي؟، وللقوة العسكرية التركية بداخله ثقل ملموس، هل الموقف من الحلف هو نفس الموقف من الاتحاد الأوروبي؟ وكانت هناك إشادة بحكومة الوفاق الليبية من قِبَل أمين عام حلف الأطلسي (الناتو) في منتصف مايو الماضي (2020)؛ ردا على «البيان الخماسي»؛ الصادر عن مصر والإمارات وقبرص واليونان وفرنسا، المنتقد لدعم تركيا لحكومة الوفاق.. وقتها أكد يِنِس ستولتنبرغ، أمين عام الحلف في مقابلة مع صحيفة «ريبوبليكا» الإيطالية، أن الحلف مستعد لدعم حكومة الوفاق، التي يرأسها فايز السراج، ولا يمكن وضع حكومة السراج، المعترف بها دولياً، والجنرال خليفة حفتر، في كفة واحدة!!. ومؤخرا هددت ألمانياوفرنساوإيطاليا بمعاقبة الدول المنتهكة لقرار حظر نقل السلاح إلى ليبيا؛ في بيان مشترك للدول الثلاث، صدر السبت الماضي (18/07/ 2020) فى بروكسل؛ عن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي، جاء فيه: «نحن على استعداد لفرض عقوبات على من ينتهك الحظر برا أو جوا أو بحرا».. ويبدو التأثير الألماني الفرنسي قد غير في الموقف الإيطالي. وبعد أن كان داعما لحكومة الوفاق بدا مفضلا الاصطفاف مع الدولتين الأقوى في الاتحاد الأوروبي، وهما مناوئتين لحكومة الوفاق، وبقي الوضع حتى وقت قريب في غير صالح «الناتو«، وبدت ليبيا «القشة التي تقصم ظهر البعير» وهو ظهر الحلف العجوز. ومثلت الأزمة الليبية دليلا جديدًا على مأزق يواجه حلف شمال الأطلسي، ولا يعني ذلك تفككه أو اختفاءه على الأقل في المدى المنظور. وروما، وهي شريك الحلف الأطلسي، وعضو الاتحاد الأوروبي، راهنت على حكومة السراج؛ وأملها الحد من الهجرة غير الشرعية من ساحل طرابلس إلى الساحل الإيطالي، وسبب آخر هو الحفاظ على حصتها من عقود النفط. أما تركيا فمشغولة بإعادة إنتاج الإمبراطورية العثمانية، واستعادة مستعمراتها العربية السابقة واحتلالها مجددا، بالضبط مثل استعادة اليهود لحلمهم، فجاءوا في شكل عصابات مسلحة من كل فج لاستيطان فلسطين؛ مركز الانطلاق ل«إمبراطورية توراتية من الفرات إلى النيل»، والهدف الاقتصادي يحققه عودة شركات المقاولات والإنشاءات التركية إلى ليبيا. وكانت تتمتع بامتيازات ضخمة في عهد العقيد القذافي، وتمكنت من الاستحواذ على عقود ب10 مليارات دولار. وتعمل على ترسيخ أقدامها في صراع الغاز المتعدد الأطراف في البحر المتوسط، وهذا ما دفع إلى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع طرابلس. بالإضافة إلى الحرب الساخنة المعلنة بين المحور التركي وجماعاته المسلحة التي يرعاها، وبين محور السعودية والإمارات وهوامشه. وفي وسط هذه العلاقات المتشابكة والمتعارضة والمتضادة، وقفت روسيا في المنتصف؛ مع مجلس النواب الليبي المنتخب ورئيسه عقيلة صالح، والجيش الوطني وقائده خليفة حفتر، وتمسك العصا من المنتصف بين تركيا وحكومة الوفاق. وتحول العلاقة بين فرنسا عضو الناتو وروسيا الدولة القوية إلى علاقة تعاون وتنسيق، وبخصوص عضوي «ناتو« أُخَر؛ تركياوإيطاليا. بدت إيطاليا أكثر قربا لألمانياوفرنسا، ومع هذا فالمسافة ما زالت على طولها، وتحُول دون اجتماع الفرقاء حول طاولة مفاوضات واحدة.. وبدت وجهتهم نحو ميادين القتال؛ هل هي الحرب؟ ومن القادر على تحمل أوزارها في وقت عصيب؟! القدس العربي