تعبير «الذئب المحارب» الذي يصف السلوك الدبلوماسي الصيني الراهن في وجه الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، لم يعد مجرّد مجاز مستوحى من الفيلم الصيني الشهير الذي يحمل العنوان ذاته، ويحيل على أكثر من نحو إلى سلاسل «رامبو» ولكن في سياق بطولي صيني؛ إذْ بدت السفارة الصينية في العاصمة الفرنسية سعيدة باستخدامه في امتداح أداء الوفد الصيني خلال مباحثات آلاسكا مع الوفد الأمريكي، وكذلك في إلحاق أقذع الأوصاف بحقّ باحث فرنسي ناقد لسياسات بكين: «أزعر صغير» «ضبع مسعور» «قزم إيديولوجي». ولم يكن وزير الخارجية الفرنسي هو الوحيد الذي بوغت بسلسلة الشتائم هذه، غير المعتادة البتة في الأوساط الدبلوماسية، خاصة الصينية المهذبة الخجولة عادة؛ بل ضجت أعمدة الصحف في الولاياتالمتحدة وغالبية العواصم الأوروبية بالحديث عن هذا التطور الحاسم. وفي الطبعة الإنكليزية من صحيفة «غلوبال تايمز» التي تعكس في الإعلام الصيني أصوات الصقور والتشدد في وجه الغرب عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً، نقرأ للبروفيسور لي هايدونغ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة الشؤون الخارجية الصينية، هذا الرأي: «السبب الأكبر وراء ضيق الغرب من دبلوماسية الذئب المحارب هو أنّ الصين لم تعد تبتسم وتتحمل الطعن. في الماضي، حين تعاملت البلدان الغربية مع البلدان غير الأوروبية، خاصة الصين، كانت تعتمد دائماً على مواقف التعالي في توجيه الصين إلى ما هو مناسب في ما يتوجب عليها أن تفعله. لكن الصين باتت اليوم أكثر حسماً وتصميماً في الدفاع عن مصالحها، وقبول هذا أمر صعب عندهم». والبروفيسور لا يكتفي بهذا التأويل، التبسيطي والبديهي في واقع الأمر وضمن تراثات إمبريالية واستعمارية أوسع نطاقاً، بل يذهب أبعد: «خلال زمن طويل امتلك الغرب شعوراً بالتفوّق في حضارته، وفي عرقه، وحكمه. النخب السياسية الغربية لا تستطيع التأقلم مع مطالب الصين في التواصل المتساوي، ولهذا يلصقون بالصين تهمة دبلوماسية الذئب المحارب، الأقرب إلى مسعى السيطرة على الرأي العام. فإذا لم تتمّ السيطرة على الأمر، فإنه قد يتصاعد إلى حرب سياسية، أو اجتماعية، أو حتى مواجهة شاملة». لافت، إلى هذا، أنّ توماس فردمان، المعلّق الشهير في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، لا يجد غضاضة صريحة في الإقرار بأنّ الصين لم تعد تحترم الولاياتالمتحدة، ولها حقّ في ذلك؛ كما يقول عنوان مقاله الأخير في التعليق على الاشتباكات الدبلوماسية التي أعقبت مباحثات آلاسكا الأمريكيةالصينية. لماذا يتوجب عليهم أن يحترمونا، يتساءل فردمان، وكأنهم «لم يلاحظوا أنّ آخر رؤسائنا ألهم أتباعه أن يقتحموا مبنى الكابيتول، وأنّ غالبية في حزبه لم تعترف بنتائج انتخابات ديمقراطية»؛ أو كأنهم لم يعرفوا بأنّ الولاياتالمتحدة «خلال الجائحة لجأت إلى طباعة النقود لمساعدة مستهلكيها على الإنفاق وتحديداً على شراء البضائع الصينية»؟ في المقابل، يتابع فردمان، قطعت الصين خطوات إضافية في تحديث القاعدة الصناعية والاستثمار الحكومي الهائل في 10 من صناعات القرن الراهن الأكثر تقدماً وعصرية؛ مثل الذكاء الاصطناعي، والمركبات الكهربائية، والاتصالات من جيل G-5، وتكنولوجيا الإنسان الآلي، والبيو طبّ، وسواه. فهل يتحسر أحد، بين واشنطنوبكين، على أيام دونالد ترامب، والتصعيد التجاري، وابتكار تعبير «الفيروس الصيني» العنصري، وما ظهر أو خفي من جبهات؛ بالمقارنة مع راهن الرئيس الجديد، جو بايدن، حيث حروب التبادل الباردة المعلنة تُخلي مكانها لحروب الذئاب المحاربة، وحيث لا يتردد وزير الخارجية الصيني من مجابهة نظيره بهذه العبارة الباردة القاتلة: «الولاياتالمتحدة لا تملك الكفاءة كي تتحدث مع الصين من موقع قوّة»؟ ثمة الكثير الذي يوحي بأنّ التواضع يتوجب أن يتوفر أيضاً في كلّ مقاربة أمريكية تجاه الصين، حتى إذا تسلحت (كما حدث خلال الايام القليلة الماضية) بمواقف اصطفاف مع واشنطن من جانب الاتحاد الأوروبي أو كندا أو بلدان غربية أخرى. الردّ الصيني الكلاسيكي تمثّل في الانفتاح السريع على روسيا، حيث ينتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أحرّ من الجمر لردّ الصاع إلى بايدن؛ أو كوريا الشمالية، التي أطلقت صاروخين باليستيين وكأنها تتحسب للانخراط في المعمعة؛ ثمّ إيران، الجاهزة أصلاً في العراق واليمن وسوريا ولبنان... والحال أنّ اتفاق الولاياتالمتحدة مع الاتحاد الأوروبي، كما تجلى مؤخراً في مباحثات بروكسيل، لا يضيف الكثير الجديد إلى حقائق التبادل التي فرضها ويواصل فرضها اقتصاد الصين، الثاني على مستوى عالمي؛ حيث الذئب لا يحارب بالأنياب أوّلاً، أو هو بالأحرى لا يلجأ إلى القواطع إلا بعد استخدام أسنان أكثر نعومة إذا جاز القول، ولكنها أكثر حسماً ومضاءً! فمن جانب أوّل، ثمة اتفاقيات تجارية وصناعية ومالية لا يمكن لأي سجلات هابطة في حقوق إنسان (فما بالك بحقوق أقليات الإيغور!) أن تضعها جانباً أو تنقل أولوياتها إلى مراتب خلفية (صناعة السيارات الألمانية مثلاً)؛ ومن جانب ثانٍ، سوف يُتاح لتحالف صيني – روسي أن يقلب الكثير من المعادلات التي تمنع واشنطن من ممارسة ضغط مباشر يُلحق الأذى بحلفائها في أوروبا بصدد ملف أنبوب «نورد ستريم 2» بين روسيا وألمانيا مثلاً) ويعطّل الكثير من أيّ زخم محتمل لحلف أمريكي أوروبي مشترك في وجه كتلة روسية – صينية. على صعيد حقوق الإنسان، ليس خافياً أنّ الصين تعلمت الكثير من الدروس في التعمية على الانتهاكات بوسائل شتى، ولم تتعلم من أحد قدر تعلّمها من الديمقراطيات الغربية ذاتها التي تنتقدها اليوم؛ مستذكرة أنّ سجلاتها في هونغ كونغ وشينجيانغ لم تمنعها، في مطلع العام 2000، من احتلال موقع «الأمّة الأكثر تفضيلاً» في ميادين التجارة والتبادل، بموجب تشريع خاصّ خرج من تحت قبّة الكابيتول تحديداً. وكان «الفوز بالثلاثة» أو هكذا تقتضي الترجمة الأكثر حرفية لتعبير Win-Win-Win، هو الحصيلة التي اختارها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، الديمقراطي للتذكير المفيد، لوصف جملة البروتوكولات التجارية التي جرى توقيعها مع الصين أثناء زيارة الرئيس الصيني جيانغ زيمن للولايات المتحدة. بالثلاثة، أو بالضربة القاضية التي تُقاس بمليارات الدولارات، وبهبوط دراماتيكي في مؤشرات العجز التجاري بين الولاياتالمتحدةوالصين، والذي كان آنذاك قد قفز كثيراً لصالح هذه الأخيرة. ولم يكن بالأمر المألوف أن تنقلب تلك المعدّلات لصالح الولاياتالمتحدة بين زيارة وضحاها فقط، خصوصاً وأنّ المسألة تتصل بأمّة ليست كالأمم العادية: أعداد سكانها تُحسب بالمليارات وليس بالملايين كما هي حال الأمم، وموقعها الجغرافي يجعلها على حدود مشتركة مع 15 دولة دفعة واحدة، واقتصادها ينفلت من عقاله يوماً بعد يوم ويستهلك الأعمال والأشغال. وحتى الساعة تبدو المواجهة مقتصرة على استدعاء السفراء تارة، أو فرض العقوبات على موظفين أو دبلوماسيين أو باحثين تارة أخرى، مع إبقاء صمام الأمان منضبطاً على الدرجة التي لا تُحلّ الحرب الباردة التجارية المفتوحة محلّ مناوشات الذئاب هنا وهناك؛ وكذلك الحفاظ، للضرورة القصوى، على توازن لا يضع واشنطن على رأس كتلة وبكين على رأس كتلة أخرى، فالخاسر مشترك هنا، والخسارة فادحة أيضاً. وليس غريباً أن الاتحاد الأوروبي منخرط، أسوة بالاتحاد الروسي، في لعبة لا تليق بها مسميات أخرى غير التقاسم والمحاصصة والشراكة. القدس العربي