موقف واحد أحيانا يكفي لإيقاظ المشاعر المكبوتة ويفشل جهودا كبرى باتجاه معاكس. هذا ما أحدثه قرار الكاتبة الأيرلندية، سالي روني الأسبوع الماضي عندما رفضت عرض شركة نشر إسرائيلية لترجمة الرواية الثالثة التي أنجزتها مؤخرا بعنوان: «عالم جميل، فأين أنت». هذه الشركة نفسها كات قد نشرت روايتيها السابقتين بعد ترجمتهما للغة العبرية. فكانت رسالة الكاتبة واضحة: أن النخبة المثقفة الغربية الليبرالية ممثلة ب «حركة المقاطعة وعدم الاستثمار والعقوبات (بي دي اس). تسعى ل «إنهاء الدعم الدولي للاضطهاد الإسرائيلي بحق الفلسطينيين وإجبار إسرائيل على الالتزام بالقانون الدولي». هذه الرسالة من كاتبة غربية تؤكد عددا من الأمور: أولها تصاعد الوعي لدى النخب المثقفة الغربية بالقضية الفلسطينية لدى قطاعات واسعة في العالم، ثانيها: فشل محاولات قتل القضية من قبل قوى الثورة المضادة في المنطقة، التي تضم كيان الاحتلال بالاضافة لدول عربية اخرى. ثالثها: أن مشروع التطبيع الذي يهدف لتخفيف الضغوط على الاحتلال لم يحقق أهدافه وأن وعي الشعوب أقوى من محاولات التضليل والتعتيم على ظلامة شعب احتلت ارضه وشرد عن وطنه واضطهد اكثرمن سبعة عقود. رابعها: أن النشاط الأدبي والثقافي الفلسطيني، الذي يستمد شرعيته وقوته من صمود أهل فلسطين من جهة ودماء الشهداء الذين يقتلهم الصهاينة يوميا من جهة أخرى، لا تذهب سدى، بل تنعكس إيجابا لدى الأحرار وذوي الضمائر. والسؤال هنا: اذا كانت هذه الروائية الغربية قد استيقظ ضميرها الذي ربما كان تحت تأثير سياسات التخدير سابقا، فلماذا لا تصحو ضمائر من يتربعون على السلطة في البلدان العربية؟ ما الذي يوقظ الضمير ويشعل أحاسيسه؟ وما الذي يخدره ويقتله ويغتال مشاعره الإنسانية؟ ما الأهداف الإنسانية والأخلاقية التي يجنيها من يهرولون منبطحين نحو تل أبيب في زيارات تطبيعية ترفضها شعوبهم بدون تحفظ؟ القصة الثانية تتلخص بما حدث الأسبوع الماضي بأحد أروقة مبنى الكنيست الإسرائيلي. هذه الحادثة ترتبط بسياسة الهرولة والتطبيع التي ينتهجها بعض الحكام العرب معتقدين أنها ستفيدهم، ولكن سرعان ما يكتشفون فشلها وآثارها السلبية عليهم. هؤلاء الحكام لا يقرؤون التاريخ بوعي، ويرفضون الاتعاظ بمصير الخونة والانبطاحيين والمستسلمين. فما مصير أنور السادات الذي وضع قطار التطبيع على السكة، ولكن سرعان ما دفع ثمن خيانته غاليا جدا؟ وضمن سياسة الهرولة نحو العدو قرر حاكم البحرين الأسبوع الماضي إرسال وفد إلى الأراضي المحتلة لتعميق حالة التطبيع برغم الاحتجاجات المستمرة ضد سياساته من قبل الغالبية الساحقة من سكان البحرين. كانت الفلسطينية عايدة توما سليمان (الإعلامية وعضوة الكنيست، ورافضة التطبيع) متواجدة عندما دخل الوفد فلم تتمالك مشاعرها بل دفعها الغضب لاحتقار الوفد فاستقبلته بطريقتها الخاصة. كان ذلك الموقف صاعقا للوفد الذي لم يكن بين أعضائه صاحب قلب حي او شهامة إنسانية او نخوة عربية. والأمل أن تفضي تلك الإهانة لحالة من التمرد ضد تلك السياسة التي أغضبت أهل فلسطين وأحرار العالم. أما القصة الثالثة في هذا المضمار فتتلخص بما حدث مؤخرا للأكاديمي البريطاني البروفيسور ديفيد ميللور المعروف بمواقفه المناصرة لأهل فلسطين. فقد قامت جامعة بريستول بفصله بعد تحقيق استمر 200 يوم حول تعليقات قالها في إبريل 2019. حينها وصف ميللور الطلاب اليهود بأنهم «مرتهنون» لإسرائيل ودعا إلى إنهاء العنصرية ك «أيديولوجية متحركة في العالم». ونتيجة ضغوط شديدة من اللوبي الإسرائيلي اعلنت الجامعة إنهاء التعاقد معه. ولكن سرعان ما هب الأكاديميون والعلماء مدافعين عنه، ووقع حوالي 500 من الأكاديميين عريضة تشجب القرار وتطالب بإعادة الدكتور ميللور لوظيفته. ويتواصل الحديث حول هذه القضية، في الوقت الذي تشكو «إسرائيل» فيه من تصاعد ظاهرة العداء للسامية في الغرب خصوصا الولاياتالمتحدةالامريكية. وترتكب إسرائيل خطأ كبيرا بسعيها لاعتبار شجب سياساتها تجاه الفلسطينيين «معاداة للسامية». ومن مصلحة اليهود الفصل بين الأمرين: انتقاد السياسات الإسرائيلية واستهداف اليهود. وفي هذا الإطار أكدت منظمة هيومن رايتس ووج الامريكية في شهر مايو الماضي أن «إدانة الانتهاكات الحقوقية الإسرائيلية أو دعم المقاطعة ضد إسرائيل لا يشكلان بحد ذاتهما معاداة للسامية. لكن عندما يُعامَل اليهود بالتبعية على أنهم متواطئون في الأذى الذي تلحقه الحكومة الإسرائيلية بالفلسطينيين، فذلك معاداة للسامية تماما كما أن مهاجمة الأمريكيين الآسيويين نتيجة تعامل حكام الصين المستبدين مع فيروس «كورونا» تشكل جريمة كراهية. الادعاء أن معظم اليهود الأمريكيين يدعمون الحكومة الإسرائيلية وهو ادعاء يشكك فيه استطلاع حديث للرأي ليس عذرا». تعتبر مقاطعة الكيان الإسرائيلي إحدى دعامات السياسة العربية الرافضة لاحتلال فلسطين. فقد سعت الجامعة العربية عندما كان الحكام العرب متحمسين لقضية فلسطين لعزل الاحتلال اقتصاديا وعسكرياً. وتاريخياً، تعد المقاطعة إحدى الوسائل المتبعة للحد من هجرة الإسرائيليين إلى المنطقة العربية. وجاءت المقاطعة الرسمية المنظمة عن طريق جامعة الدول العربية بعد حرب 1948. وتغطي رسمياً، مقاطعة جامعة الدول العربية ل «إسرائيل» تغطي ثلاث جهات: أولا: البضائع والخدمات المصدرة من إسرائيل (تُسمى بالمقاطعة من الدرجة الأولى ولا تزال مطبقة في عدد من الدول العربية). الثانية: الشركات غير العربية التي تتعامل مع إسرائيل (تُسمى بالمقاطعة من الدرجة الثانية). الثالثة تشمل الشركات التي تشحن بضائعها من خلال المنافذ الإسرائيلية (تُسمى بالمقاطعة من الدرجة الثالثة). ونظرا للالتزام شبه الشامل بمشروع المقاطعة فقد كانت سلاحا حقيقيا في مشروع تحرير فلسطين، وأحدثت ضغوطا اقتصادية على داعمي الاحتلال في الغرب. ومن الناحية الرسمية ما تزال المقاطعة مشروعا عربيا يفترض أن يكون ملزما لجميع الدول العربية. ومن الناحية النظرية على الأقل يعتبر الخروج عن هذه السياسة استهدافا لما يسمى «الإجماع العربي». وطوال العقود الخمسة التي تلت الاحتلال الإسرائيلي كانت هذه المقاطعة فاعلة، حيث التزمت بها دول غير عربية كثيرة. وتوسعت المقاطعة لتشمل المقاطعة الثقافية والرياضية. وكانت روح المقاومة والتحدي لدى النخب العربية في النصف الثاني من القرن الماضي تدفعهم للاحتذاء بأساليب النضال التحرري لدى الشعوب والمنظمات المناهضة للاستعمار والعنصرية. فقد كانت المقاطعة الاقتصادية والثقافية والرياضية من أشد الأسلحة فتكا بالنظام العنصري في جنوب أفريقيا. واعتبرت المقاطعة ممارسة تقدمية وتحررية وإنسانية. ألم يستخدم الغرب سياسة المقاطعة لتركيع الشعوب في العراق وإيران وقبلهما كوبا؟ في ضوء ما تقدم يعتبر الخروج على مشروع المقاطعة خصوصا من الدول التي هرولت للتطبيع خرقا لتوافق عربي كان من أسباب احترام العالم للأمة، وتقدير زعمائها الصامدين على طريق التحرير والمتحمسين للمقاطعة بكافة تجلياتها. وتعتبر إقامة العلاقات مع الاحتلال من قبل الحكومات المطبّعة طعنة في خاصرة الشعب الفلسطيني الذي يدفع ثمن الاحتلال يوميا بسقوط الشهداء وإبعاد الفلسطينيين من ديارهم (كما حدث مع سكان حي الشيخ جرّاح في القدس) وتصاعد سياسة تهويد المدينة المقدسة ومصادرة ممتلكات الفلسطينيين. القدس العربي