يزخر تراث المطبخ الجزائري بعدة أطباق تقليدية ترتبط بالزمان والمكان، ولا تكتمل لذتُها إلا في حضرة الجماعة، التي يلتف أفرادها على طاولة واحدة لتناولها على وقع الطرائف والنُكت واستذكار الزمن الجميل. الشَخشوخة، واحدة من هذه الأطباق الشعبية التي لا تفارق موائد الجزائريين في الأفراح والمناسبات وحتى في أيامهم العادية وفي رمضان، حيث يقوم بعض من اصحاب المطاعم ببيعها على المحمول في الساعات الأخيرة قبل الافطار. ..ملكة الطاولة في حضرة الشخشوخة تُفتح أبواب النقاشات أكثر من تلك التي يُثيرها رجال السياسة، فقد يختلف كثيرون في توجهاتهم وآرائهم، لكنهم يُجمعون في العادة على أن هذا الطبق لا يُقاوم. في السياق يُجسد الشاب فتحي (35 عاماً) شِعار "أقرب طريق لقلب الرجل بطنه" فيقول متغزلاً بها "هي ملكة المائدة من دون منازع، تستحق أن أمنحها وقتي وتركيزي. مذاقها ومنظرها شيء من الخيال". يضيف "بكل بساطة الشخشوخة طبق ملكي وإلا ما كان ليُقدم للضيوف، في دلالة على الكرم وجود المناطق التي تنتشر فيها". وليس غريباً أن يقطع جزائريون مسافات طويلة، مُتوجهين إلى مدينة بوسعادة التي تبعد 242 كيلو متراً جنوب العاصمة، لتناول الشخشوخة، فمذاقها هناك يختلف عن تلك التي تباع في محلات الأكل التقليدي في مدن الشمال، فهي ألذ طعماً وما يميزها هي التوابل المستخدمة التي تجعل مذاقها ساحراً ومميزاً. كما تعرف هذه الأكلة رواجاً كبيراً في مدن شرق الجزائر مثل باتنة وخنشلة وعنابة وبسكرة وسطيف، وحتى مدن السهوب كالجلفة والأغواط. وعلى الرغم من تشابه تسميتها لدى عموم الجزائريين إلا أن طريقة تحضيرها وطهيها تختلف من منطقة إلى أخرى نظراً لتمايز الثقافات والعادات والتقاليد في أكبر بلد أفريقي من حيث الرقعة الجغرافية. ..الشخشوخة تزاحم الكسكس بالنسبة إلى عاصمة الرستميين، تيارت، الواقعة غرب الجزائر العاصمة، فإن الشخشوخة باتت تزاحم طبق الكسكس والبركوكس على موائد العائلات، تقُول صورية المتحدرة من المنطقة: "الشخشوخة التيارتية ذات طابع خاص، لأنها تُحضّر مما يُعرف بالرقاق أو المدلوك عند سكان المنطقة، بالإضافة إلى بعض الفلفل الحار والدجاج مع إمكانية إضافة الزيتون وبعض العقاقير التي تعطي نكهة خاصة". أما في ولاية الجلفة تُعتبر شخشوخة أولاد نايل الطبق المفضل لكثير من العائلات بخاصة في المناسبات، حيث يُكرم الضيوف بها. وتقول الحاجة شريفة إن "لهذا الطبق مكانة خاصة لدى سكان المنطقة، على الرغم من أن الطبق الأول المعروف في الجلفة هو الكسكس"، الذي سجلته منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، ضمن قائمتها للتراث العالمي غير المادي. ويعدّ الكسكس من طحين القمح أو الذرة في شكل حبيبات صغيرة ويتناول بالملاعق أو باليد، كما يطبخ بالبخار وتضاف إليه الخضار والمرق واللحم أو الحليب حسب الأذواق. وعن طريقة تحضيره، تُؤكد الحاجة شريفة "لا تختلف كثيراً طريقة تحضيرنا للشخشوخة عن تلك التي يتم إعدادها في مدينة بسكرة، غير أن هناك عائلات تُفضل إضافة المشمش الجاف والحرص على أكلها بلحم الخروف، وليس لحم الدجاج بحكم أن المنطقة رعوية ومعرُوفة بكثرة مربي الأغنام". والطبق هو عبارة عن عجينة تُخلط من القمح الليّن والماء والملح، ثم تُشكل منها كريات صغيرة، وتُصنع شرائح دائرية متساوية، بعدها توضع الرقائق على الطاجين المصنوع من حديد أو الطين. عقب الانتهاء من طهي الرقائق، تفتت إلى قطع صغيرة جداً، لا يهم إن كانت بحجم واحد، وتترك حتى تجف. بالنسبة إلى المرق الذي يوضع فوقها يتطلب تحضيره، حضور اللحم الأحمر (الغنم أو البقر)، كما يمكن استخدام الدجاج، إلى جانب الحمص، إذ توضع المكونات في القِدر بالإضافة إلى الزيت أو الزبدة والملح والبهارات، وتطبخ على نار هادئة، قبل أن يضاف إليها الخضار وبالعادة تكون اللفت والقرع والجزر. وبحسب الكمية المرغوبة تُسقى الشخشوخة بالمرق. ..محلات تغزو المدن الوسطى
اللافت، أن محلات بيع المأكولات التقليدية تشهد تزايداً مطرداً في المدن الوسطى في الجزائر مع ارتفاع الإقبال على الشخشوخة من المواطنين، ما دفع بعدد كبير من الباعة في المناطق الداخلية والجنوبية إلى التوجه نحو العاصمة، وضواحيها تحديداً. وتقول زينب إن كِبر سنها وعيشها مع خمسة من أبنائها الذكور منعها من تحضير المأكولات في المنزل، لتجد في هذه المحلات التقليدية ضالتها، معتبرة الشخشوخة إرثاً جزائرياً خالصاً. وعن تاريخ الطبق وأصوله، ترصد رواية "الجِيفة" للروائي والسينمائي الجزائري عيسى شريط، أنها هي وليدة صراع طبقي بين الأغنياء والفقراء. ففي القديم كان أثرياء الجزائريين يتفاخرون بشوي اللحم خارج المنزل، أمام أعين الجميع، ثم يدعونهم للوجبة الدسمة المسماة "المصَوَّر"، قبل أن يُولد طبق الشخشوخة من قبل الفقراء لتتحول مع مرور الأيام إلى أشهر طبق تقليدي في الجزائر يتهافت عليه الجميع، لكن المفارقة أن الطبقات الكادحة باتت محرومة منه نظراً لغلاء أسعار مكوناته.