كيف نأخذ من القرآن ما نتعلمه للنمو والتقدم الاقتصادي؟. الإجابة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإن دين الإسلام هو الدين الذي ارتضاه لعباده، وكل خير للعباد في دينهم ودنياهم فهو مبين في كتاب الله أحسن بيان وأتمه، قال سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {النحل:89}، والله سبحانه هو خالق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم وينفعهم؛ كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {الملك:14}، وأما ما يتعلق بالقوة: ففي القرآن العظيم إرشاد للمسلمين بأنهم مأمورون بالسعي في تحصيل كل أنواع القوة في جميع جوانبها اقتصاديا، وعسكريا، وغير ذلك؛ لإظهار دين الله، والتمكين له في الأرض، وأن الإسلام لا يدعو إلى الرهبانية والعجز والإخلاد للأرض، بل يدعو إلى الأخذ بكل أسباب القوة جميعها، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ {الأنفال:60}. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: ودين الإسلام الذي نتكلم باسمه الذي هو تشريع رب العالمين جل وعلا لا يمكن أن يكون صخرة تعثر في طريق التقدم، بل هو دين كل تقدم في كل ميادين الحياة، فدين الإسلام يدعو إلى التقدم والقوة في جميع ميادين الحياة، فما يخيله الكفرة الإفرنج من أنه دين ركود وجمود ودعة وإخلاد إلى الأرض، وأن المتمسك به لا يمكن أن ينهض، ولا يساير ركب الحضارة، كلها فلسفات شيطانية لا أساس لها، تروج على ضعاف العقول. أما دين الإسلام فهو في حقيقة ذاته دين التقدم في جميع الميادين الحيوية، فيدعو إلى كل تقدم في جميع الميادين الحيوية، إلا أنه يعلم الناس أن هذه الدنيا ليست فوضى، وأن عليها ربا حكما عدلا هو خالق كل شيء، ومدبر كل شيء، ومنه كل شيء، وإليه مصير كل شيء، هو الذي خلق هذه الأرض والبحار، ونصب هذه الجبال ورفع السماوات، وخلق هذا الخلق، وشق أعينهم، وصبغ بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفعل بهم ما هو معروف، هذا الرب هو الذي له السلطان الأكبر، والكلمة العليا، فلا يصدر إلا عن أمره، فهو (جل وعلا) الحقيق بأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وهو (جل وعلا) أنزل كتابا مبينا محفوظا من كلامه (جل وعلا)، وسنة نبوية على نبي كريم، بين فيها معالم الحياة، وأقام فيها أسس الدنيا التي إذا مشت عليها قامت بالعدالة التي لا نظير لها، والأمن والطمأنينة والرفاهية، وانتظمت علاقاتها على أكمل وجه، مع إرضاء خالق السماوات والأرض، والعمل لدار الكرامة والخلود في الجنة في الدار الأخرى. وإذا نظرتم في القرآن فإنه لا يدعو إلى الإخلاد والضعف والعجز، لا وكلا، بل إنه يدعو إلى التقدم والقوة في جميع ميادين الحياة، اقرءوا آية: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: آية 61] فتجدوا نص هذه الآية الكريمة يأمر بإعداد القوة، وهو مساير للتطور مهما بلغ التطور، ولو مما لا يتصوره الإنسان، فالمتكاسل الذي لا يعد القوة لرد الكفاح المسلح، وقمع أعداء الله، هو مخالف لنظام القرآن، غير ممتثل أمر الله؛ لأن الله يقول: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}. وإذا نظرتم في القرآن تجدونه يبين معالم السياسة، ومعالم الاجتماع، ومعالم الاقتصاد على أبدع الوجوه وأكملها في جميع مرافق الحياة .اه. من العذب النمير. ومن مظاهر حسن الإسلام في مثل هذه القضية: أنه لم يحصر العباد في نظام خاص في شؤون الاقتصاد ونحوها مما يتعلق بمعاش الناس، بل جعل ضوابط عامة وحدودا للواجب والمحرم فيها، وترك للعقل البشري مجال الاجتهاد والإبداع فيما لم ينه عنه الشرع من أمور الدنيا، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم». أخرجه مسلم. ومن الاهتداء بهدي القرآن الكريم: أخذ تفاصيل العلوم الاقتصادية وغيرها وأسباب التفوق فيها من أهلها، والإفادة من نجاحات الأمم الأخرى وتجاربها، فتفاصيل الأمور الدنيوية ليست موقوفة على النص الشرعي، والقرآن العظيم قد أشار إلى الرجوع إلى أهل الاختصاص في جميع القضايا، وهذا يعتبر نوعا من البيان لها. قال ابن عثيمين: من الله علينا بكتابه العزيز الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [سورة فصلت، الآية: 42] وجعله سبحانه وتعالى تبيانا أي مبينا لكل شيء يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم، ثم إن تبيان القرآن للأشياء ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يبين الشيء بعينه مثل قوله تبارك وتعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [سورة المائدة، الآية: 3] وقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما * والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم} [سورة النساء، الآيتان: 23-24]. الثاني: أن يكون التبيان بالإشارة إلى موضع البيان مثل قوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} فأشار الله تعالى إلى الحكمة التي هي السنة، فإنها تبين القرآن. وكذلك قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [سورة النحل، الآية: 43] وأيضا [سورة الأنبياء، الآية: 7]. فهذا يبين أننا نرجع في كل شيء إلى أهله الذين هم أهل الذكر به، ولهذا يذكر أن بعض أهل العلم أتاه رجل من النصارى يريد الطعن في القرآن الكريم وكان في مطعم، فقال له هذا النصراني: أين بيان كيف يصنع هذا الطعام؟ فدعا الرجل صاحب المطعم، وقال له: صف لنا كيف تصنع هذا الطعام؟ فوصفه، فقال: هكذا جاء في القرآن، فتعجب النصراني. وقال: كيف ذلك؟ فقال: إن الله عز وجل يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فبين لنا مفتاح العلم بالأشياء بأن نسأل أهل الذكر بها أي أهل العلم بها، وهذا من بيان القرآن بلا شك، فالإحالة على من يحصل بهم العلم هي فتح للعلم. اه. وتفصيل الكلام عما يتعلق بأسباب التقدم الاقتصادي في القرآن العظيم ليس مجاله الفتوى، بل يحتاج إلى بحوث وتصانيف، فهناك قضايا عديدة تتعلق بهذا الموضوع: كبيان القرآن العظيم لأهمية الأخذ بالأسباب، وأنه لا ينافي التوكل على الله والاعتماد عليه في تحصيل المسببات، وأن الأسباب الشرعية كتقوى الله وطاعته سبب من أسباب التوفيق لتحصيل القوة المادية، وأن القوة المادية ليست دليلا على خيرية عند الله، فقد يعطيها الله لأعدائه، ويمنعها أولياءه لحِكَم عظيمة، وبيان أن تحصيل المسلمين للقوة المادية ليست مقصودة لذاتها، وإنما مقصودها الأعظم إقامة دين الله، ونصرة شرعه، وكذلك ما في القرآن العظيم من تشريعات تتعلق بالاقتصاد: كتحريم الربا، وإيجاب الزكاة، ونحو ذلك، وكذلك ما في القرآن العظيم من إشارات لقضايا اقتصادية، كاستشراف المستقبل، والتدبير للأزمات، كما في قصة يوسف عليه السلام حين عَبَر رؤيا الملك، وعمل بها، وغير ذلك.