تعد " دار عبد اللطيف" واحدة من أجمل الدور في الجزائر العاصمة، وبنيت وسط الغابة القريبة من "مقام الشهيد"، الذي تم تدشينه في ثمانينات القرن الماضي، وغير بعيد عن "مغارة سيرفنتيس" حيث قضى الروائي الإسباني الشهير صاحب "دون كيشوت" فترة أسره التي دامت خمس سنوات قبل أن يعود إلى بلاده ويكتب تلك الرواية الشهيرة. ويقال إن عبد اللطيف كان مجرد ثري يحب الثقافة، وقيل أيضا إنه كان وزيرا، واسمه "أحمد بن عبد اللطيف". ويجمع الكل أنه عاش في القرن الثامن عشر زمن الجزائر العثمانية التركية، التي استمرت ثلاثة قرون قبل الغزو الفرنسي، الذي غير أشياء كثيرة، وترك بصمته واضحة بعد رحيله، لكنه لم يتمكن من ذكرى هذا المثقف الذي بقيت الدار التي تنسب إليه شاهدة على عصر مضى. نايلة باشا مرجع هندسي.. قاوم التغيرات السياسية وحافظ على جوهره الدار وإن لم يكن عبد اللطيف بانيها، إلا أنها ارتبطت باسمه إلى الأبد، منذ أن اشتراها قبل قرنين من الزمان، بمبلغ ألفي دينار ذهبي كما تشير الروايات، وقبل أن يشتريها، سبق أن سكنها بعض أعيان مدينة الجزائر في ذلك الوقت، ولم ترتبط باسم واحد منهم مثلما ارتبطت بهذا الشاعر والمثقف. وقد حولت في وقته إلى قبلة المثقفين، حيث تذكر المصادر التاريخية أن كبار الفقهاء والمثقفين والشعراء في العهد العثماني بالجزائر كانوا من زائريها، منهم سيدي محمد بن الشاهد والشاعر سيدي أحمد بن عمار وغيرهم. لكن سقوط "إيالة الجزائر العثمانية" تحت سلطات الاحتلال الفرنسي سنة 1830 جعل الدار تمر كما مرت البلاد بمرحلة صعبة كادت تقضي على أسطورتها. فقد حولتها سلطات الاحتلال منذ تلك السنة إلى مستشفى ودار نقاهة عسكرية خاصة بجنود الاحتلال. لكن ورثة عبد اللطيف ناضلوا بالسبل القانونية من أجل استعادتها، وبالفعل تمكنوا منذ ذلك سنة 1834، ثم قاموا بكرائها ليهودي اسمه موشي بن شيري ست سنوات مقابل 1000 فرنك فرنسي عن كل سنة، وقام موشي بدوره بكرائها لسلطات الاحتلال الفرنسي، التي تمكنت بعد ذلك من شرائها بمبلغ 75 ألف فرنك فرنسي قديم، وألحقتها بالشركة التي كانت تدير حديقة التجارب التي في محيطها. ومن هنا بدأ العصر الذهبي الثاني لدار عبد اللطيف، عندما تحولت بعد ذلك إلى ورشة للفنانين التشكيليين، حيث ارتبط اسمها بكبار الفنانين التشكيليين على غرار أوجين دولاكروا وأوجين فرومنتين وهما من كبار الفنانين التشكيليين المرتبطين بفن الاستشراق التشكيلي. ومن أشهر الفنانين الذين تخرجوا في دار عبد اللطيف، شارل دوفران، وهو من كبار الفنانين التكعيبيين، واوغستين فيراندوولويس بيرتوم وغيرهم. وعندما بلغت الدار شهرة عالمية، صنفتها سلطات الاحتلال الفرنسي سنة 1922 من ضمن الآثار التاريخية المهمة، وحافظت على اسمها القديم وهو"دار عبد اللطيف"، الذي بقيت تحمله إلى الآن على الرغم من كل التغيرات السياسية التي طرأت على محيطها ولم تغيّرها في جوهرها. وهي الدار التي تحولت في منتصف القرن الماضي إلى واحدة من أكبر وأشهر الورشات الفنية التشكيلية في العالم، يزورها هواة الفن من مختلف البلدان لشراء أجمل اللوحات التي أنجزت بين جدرانها. إنها الدار التي لم يبنها "عبد اللطيف"، لكنه فرض اسمه عليها حيا وميتا، وبعد أن ألهمت الشعراء والفقهاء في عصرها الأول، ثم ألهمت الفنانين التشكيليين في عصرها الثاني، ها هي الآن وقد أصبحت في عهدة "الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي" التابعة لوزارة الثقافة تتحول إلى مزار للروائيين غير بعيد عن ذكرى سيرفنتيس صاحب "دون كيشوت" وهي تطل من على ربوة خضراء على البحر المتوسط. .. تحفة معمارية صنعتها أنامل عثمانية تعتبر دار عبد اللطيف العريقة معلما مصنفا ضمن التراث الوطني وتحفة في فن الهندسة المعمارية الجزائرية التي ترجع إلى الحقبة العثمانية. كما هي نموذج من نماذج الإقامات الصيفية التي كانت مفضلة لدى أعيان إيالة الجزائر. وكانت تقع آنذالك في الريف، أو ما كان يسمّى منطقة الفحص، وهي تحيط بمدينة الجزائر وتمثل أحد بساتينها ومقاما للراحة والاستجمام في الصيف. ولقد كانت كل إقامة من هذه الإقامات تدعى الجنان نظرا للمساحات الواسعة والنباتات الغناّء المحيطة بها. ويعود أقدم سند ملكية لهذه الدار إلى عام 1715 قبل أن تنتقل إلى ملكية العديد من الأعيان، ومنهم أحد وزراء البحرية. وفي عام 1795 اشتراها عبد اللطيف بمبلغ ألفي دينار ذهبي، ونظرا إلى أنه كان آخر جزائري امتلك هذه الدار فإنها بقيت تحمل اسمه إلى يومنا هذا. "دار عبد اللطيف" وجهة الفنانين والرسامين قام جيش الاحتلال مع بدايات عهد الاستعمار بمصادرتها وأدخل عليها الكثير من التعديلات قبل أن تنتقل إلى الأملاك العمومية وتوظف في شتى الاستعمالات وقد استغلها الاستعمار كمستشفى خاص للجيش الفرنسي حيث ردمت وشوهت العديد من أجزائها، لتبقى مهملة بعد الاستقلال قبل أن ينطلق مشروع إعادة تأهيلها وترميمها من طرف مهندسين ومختصين جزائريين شباب لجعلها إقامة للفنانين. ..أشياء ثمينة تكتنزها الدار حظيت دار عبد اللطيف بين عامي 2006 و2008 بعملية ترميم أشرفت عليها وزارة الثقافة، واستعادت في الوقت الحاضر كل جمالها ورونقها، وصارت تجسد مرة أخرى اختصاصها التراثي ومصيرها الجديد كإقامة للإبداع وفضاء ثقافي ومقر للوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي، كما قد اكتشف مؤخرا بفيلا "عبد اللطيف" بالعاصمة، معلم أثري يتمثل في نظام للسقي يشبه نظام "الفوقارة" بالجنوب، يرجع إلى القرن ال 17 من العهد العثماني، حيث تم الاكتشاف صدفة خلال عمليات الترميم وإعادة التأهيل بالفيلة وقد تم الوصول إلى هذا الاكتشاف خلال عماليات إعادة الترميم لفيلا عبد اللطيف التي يعود تاريخ إنشائها إلى القرن السابع عشر، وذلك في إطار تأهيلها وتحويلها إلى إقامة الفنانين وهذا جاء بعد رفع أطنان من التراب التي تعمد الاستعمار الفرنسي أن يردم بها الكثير من أجزاء الفيلة، سيما تلك التي تكشف تميز المجتمع الجزائري كالحمامات والحوض الذي قاد المختصين للوصول إلى قنوات السقي التي تشبه المشط وتعمل علي تزود مختلف الحدائق المحيطة بالفيلة بالماء، وقد كان هدف الاستعمار طمس الشخصية والهوية الجزائرية ومحوأي تميز من شأنه أن يبرز خصوصية وأصالة الشعب الجزائري، ....معلم تاريخي يطل من قلب الروابي بالقرب من المتحف الوطني للفنون الجميلة ، وعلى الهضبة نفسها، نجد فيلا عبد اللطيف، التي بنيت في القرن الثامن عشر على الطراز التركي، وتحولت بين عام 1902 وحتى الاستقلال إلى مكان لاستقبال الرسامين القادمين من أنحاء العالم. هذه الفيلا التي تشبه القصور العثمانية الموجودة في القصبة تبدو أكثر أناقةً وجمالاً، بسبب وجودها على هذا المرتفع الخلاب وإطلالها على العاصمة خاصة وأنها تقع في قلب الروابي المطلة على خليج الجزائر وهي مندمجة في محيط غابة الأقواس حيث يوجد على مقربة منها ، مركب رياض الفتح، والمكتبة الوطنية الجزائرية وحديقة التجارب بالحامة. وتمثل هذه الدار التي أصبحت مقر الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي،مصدرا قويا من مصادر الإلهام والتحفيز للضمها للمواعيد الثقافية وعروض الفناين والرسامين. "دار عبد اللطيف" تتحدى الزمن وتفتح أبوابها للروائيين والدار التي بدأت شهرتها باستضافة كبار شعراء ذلك الوقت، عادت هذه المرة لتستضيف وهي في عهدة "الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي" نخبة من كتّاب هذا العصر في إطار شراكة مع "آكت سود" الروائي نمرود من تشاد، ليغي غارنييري من إيطاليا، آندري غولاسيموف روسيا، وماثياس إينارد من فرنسا، وفاروق مردام بيك من سوريا، ومينة تران هوي من فيتنام، وإيمانويل لاندون من أستراليا وتيم باركس من إنجلترا وبريتن بريتن باشا من جنوب أفريقيا، والروائي جبور دويهي من لبنان، وباهييه ناخجافاني من الهند، وخوسيه كارلوس سوموزا من كوبا، إضافة إلى الروائي واسيني الأعرج، وخالد الخميسي من مصر.