الأيام تمضي وتعكس بعضها بعضا... بالأمس فقط تحوّلت “معركة الأقدام” بين مصر والجزائر إلى حرب الإعلام استعملت فيها كل الأساليب المتاحة، المباحة منها وغير المباحة، في السب والشتم بشكل يندى له جبين كل مسلم غيور على دينه وكل عربي أصيل غيور على نخوته، حتى تحوّل العدو إلى صديق والصديق إلى عدو. واليوم أصبح الحال غير الحال، بعدما كان كل واحد يتهم الآخر بأنه “البادئ والبادئ أظلم“، صار كل طرف يتفنّن هذه الأيام في تبرئة ساحته بين بني قومه، فاستردت الجزائر حقها في مصر وقد تسترد مصر حقها في الجزائر. وللّه في خلقه شؤون.. علم الجزائر الذي أحرق عدة مرات في مصر أصبح يرفرف في البطولة المصرية بأيادي أنصار الزمالك، ليس حبا في الجزائر وإنما نكاية في الإتحاد المصري الذي أصبح في وضع حرج بعدما تأكدت الصورة لدى بعض المصريين أن “زاهر الظالم سبق وأن ظلم الجزائر”. ومنذ أيام فقط هدّدت لجنة أنصار مولودية الجزائر برفع علم مصر في أول مباراة يجريها الفريق داخل الديار، “تنديدا بالظلم الذي تعرّض له الفريق بباتنة في ربع نهائي الكأس والعقوبات التي صاحبت المباراة”. في أشهر قليلة تحوّل الجلاد إلى ضحية وتحوّلت الضحية إلى جلاد، في تغيرمفاجىئ لا يصدّقه عقل. رفع العلم الجزائري في مصر ليس جريمة مثلما هو رفع العلم المصري في الجزائر ليس خيانة، لكن تراكم الأحداث بالطريقة التي يعرفها الجميع يجعل مبادرة مثل هذه غير طبيعية في الظروف الحالية، لأن الزهرية سقطت وانشطرت ولن يعيدها ترميمها أجمل مما كانت، ولا يصلح العطار ما أفسده الدهر. قد تعود العلاقات بين مصر والجزائر، لكن ليس غدا. وحتى لو تعود فلن تكون مثلما كانت بعد كل العار الذي حدث، ثم إن الأعلام التي رفعت في مصر لن تبني لنا قصرا ولن تحفر للمصريين قبرا، وكذلك الحال بالنسبة لما تفكر فيه لجنة أنصار المولودية. بيني وبينكم هذه كلها “حرب” زائفة لا تنفع ولا تضر. وأذكر هنا حكاية طريفة وقعت لمبعوث “الهدّاف” إلى إيطاليا أحمد العكروت، عندما دخل مطعما مصريا في روما ومازح صاحبه قائلا إنه لن يأكل عنده مادام هناك ثأر لم يصفّ بعد بين الجزائر ومصر. فما كان من المصري إلا أن قال له: “ما حدث بيننا عيب كبير، التجنيد الذي حصل جعلني أظن أننا سنحرّر فلسطين، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا نطالب بمواجهة منتخب إسرائيل ونلحق به شر هزيمة نسترد بها كرامتنا، ولا يهمّنا بعدها إن بقيت الأراضي العربية تحت الاحتلال الصهيوني، ما دمنا قد حقّقنا مرادنا بدحرهم بجلد منفوخ نركله بأقدامنا”. الجالية العربية في الدول وأوروبا خصوصا تتميّز بوعي سياسي أفضل مما هو موجود في البلدان العربية. وهي تدرك بشكل أفضل طبيعة الصراع مع العدو وأبعاد القضايا العربية الجوهرية ومخاطر الانقسامات على مسائل ثانوية مثل كرة القدم، لذلك تقارب الجزائريون والمصريون في المهجر في وقت تباعد الشعبان في شمال إفريقيا. رفع العلم الجزائري في مصر للهدف الذي رفع من أجله هو إهانة للجزائر قبل أن يكون إهانة لمصر. ولو يرفع علم مصر في مدرجات المولودية هو إهانة لمصر قبل أن يكون إهانة للجزائر، لأن كليهما لم يرفع بفخر وإنما “نكاية لأعداء الداخل الجدد”. العلمان يستخدمان الآن من باب عدو العدو صديق، ومع أننا الآن في حالة لا صداقة ولا عداوة مع المصريين إلا أنه لا شرف في رفعهما بهذا الشكل. الشرف أن يرفع العلمان على أراضينا وقد تحرّرت من أيادي المغتصبين، لكن ذلك مازال مستبعدا لأننا لم نع بعد أن كرة القدم ليست المعركة المطلوبة ونصرها ليس النصر المنشود.