نشرت : المصدر الشروق الجزائرية الأربعاء 19 أغسطس 2015 10:56 "أجبر جامعة أمريكية على مراجعة قوانينها في أسبوع، وإدراج ديبلوم جديد لمنحه إياه لأنه صنع الاستثناء.. من العدم.. من الصفر انطلق.. من دوار في الهضاب العليا بسطيف.. كانت البداية وبلغ به الإيمان بذكائه وحبه للعلم درجات على.. فأذهل الأمريكان وأصبح قدوة يحتذى بها، مثل الجزائر أحسن تمثيل وغير الفكرة من "إرهابي" إلى حفيد الشهداء والباحث المقتدر الذي تبنته أمريكا ومنحته عديد الشهادات والامتيازات.. وعاد إلى الجزائر الأم فكان نصيبه "شهادة بطال.. لا يمارس أي عمل بأجر".. هو الدكتور عبد الرحمان يامين صدوق، من مواليد 28 أفريل 1961 ببازر سكرة في ولاية سطيف، العقلالمهاجر الراغب في العودة إلى الديار، ترعرع في منطقةبازر سكرة، هناك حيث كان والده فلاحا بسيطا، رعىالغنم مع أقرانه، وعاش ظروفا قاسية في طفولته، ورغمذلك لم تثنه قساوة الطبيعة والظروف على المضي قدمالغنم الشهادة تلو الشهادة واللغة تلو الأخرى والمنصببعد الآخر، رسالته لتلاميذ اليوم وطلبتها من أبناءالوطن، "أن أمضوا، فظروفكم اليوم أحسن من ظروفي بالأمس ورغم ذلك بلغت ما رغبت فقط، لأننيقررت، أنتم اليوم تحوزون كل شيء ولا تنقصكم سوى الإرادة والثقة بالنفس، بل أن 80 في المائة منكم لديهمأفضل مما كان لدي عندما شققت مساري الدراسي، لا أحد أفضل منكم لا الأمريكان ولا حتى الفرنسيين..بالعكس الفيصل بيننا هو معدل الذكاء وهم ليسوا بأفضل منا". بشار الأسد كان زميله في كلية الطب بدمشق من مدرسة لعوازقة، إلى متوسطة ابن باديس، إلى جامعة سطيف، ومن ثمة إلى جامعة دمشق، فكلية الطببجامعة نيويورك ومن هناك إلى جامعة سانت روزفلت بكولومبيا بالولايات المتحدةالأمريكية، كان المشوارالدراسي للنابغة، مذهل الأمريكان، الدكتور صدوق عبد الرحمان، كان نابغة زمانه وحصل على شهادةالبكالوريا بمعدل امتياز مكنه من دخول الجامعة والحصول على أولى المراتب التي أهلته لحصد منحة لدراسةالطب بكندا، غير أنه اختار الدراسة في سوريا حبا في اللغة العربية وليس عقدة أو نقصا، هناك بسوريا،حيث كان زميل بشار الأسد، يقول أنه كان رجلا طيبا، وكان الجميع يحبه، وتمنى هو ورفاقه في الدراسة عندماانتخب رئيسا أن يذهب بحاضنة الأمير عبد القادر إلى مصاف الدول المتقدمة.. ولكن.. لم يعلق الزميلعلى زميله واكتفى برسم علامات تحسر على محياه..
مسؤول بوزارة اعتبر دراسته الطب بالعربية تحضيرا لكتابة "لحجابات" عودة الطبيب العام آنذاك إلى الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، كان صادما، فلقاؤه بأحد المديرينالمركزيين بوزارة التعليم العالي لم يكن مقدرا ولا حتى مشجعا، المدير قال له في أول لقاء بنابغة عائد بعدنيل الشهادة "درست بالعربية يعني رح تكتب لنا حجابات" -يقصد الطلاسم-، هي جملة جعلت الطبيبيضرب أخماسا بأسداس عن معنى الشهادة لدى هؤلاء المسؤولين، وهل اللغة التي يدرس بها تغير في العلمشيئا، الحقيقة أن دراسة الطب بالعربية أو الإنجليزية أو الاسبانية لا تغير شيئا في المسلمات، ومع ذلك وإنكان الأمر صادما، غير أنه لم يثبط عزيمته، بل جعلها تكبر وتتطور وتجعل منه شخصا آخر يسعى لأن يدرسباللغة التي لا تصنع "الحجابات"، لغة موليير، فقد حصل على منحة أخرى سافر بها إلى فرنسا، هناك، حيثنافس الفرنسيين، وهناك، حيث اكتشف احتقارهم لكل ما هو جزائري، فهم لن ينسوا يوما أنهم كانوامستعمرا ولن يتخلوا عن الفكر الكولونيالي، وما عايشه الطبيب العام الباحث عن التخصص شاهد علىهذا الفكر، فقد كان الفرنسيون أثناء دروس التدريب يقدمون أبناءهم من الطلبة على باقي الطلبة، حتى أنالشهادة التي تمنح لغير الفرنسيين والجزائريين غير معترف بها.. عبد الرحمان تحمل تلك النظرة الدونية لمدةشهرين فقط، انتهيا بأن سافر إلى كندا وهناك
من طبيب إلى بطال ومن بطال إلى قدوة للأمريكان كان ذلك عام 1990، دكتور اليوم لم يكن يعرف شروط الالتحاق بالجامعات الأمريكية ولا حتى كيف يمارسالطب هناك، وكانت الصدمة عندما علم بأنه لا يمكن لأي طبيب مهما كانت جنسيته حتى الأمريكان أنيمارسوا الطب أو يعالجوا أي مواطن أمريكي ما لم يدرسوا في الجامعات الأمريكية، هنا رفع عبد الرحمان تحدياآخر، هو دراسة الطب بالإنجليزية، اجتاز ثلاثة امتحانات صعبة، ونالها بامتياز، ومن هنا بدأت رحلة النجاحفالتحق بجامعة سانت روزفلت بكولومبيا، أين درس الأبحاث في مركز الأبحاث في البدانة، وقدم عدة بحوثوتلقى وعلى العكس من فرنسا المساعدة من الجميع، فالمسؤول الأمريكي يهمه أن يجد الحل لمعضلاتبلاده ولا يهمه من يقدمها ولا عقدة له في أن يقدمها جزائري مسلم، أم شخص آخر، بهذا الفكر ارتقتأمريكا، ولأنه قدم الكثير تمت ترقيته إلى مدير لمركز الأبحاث.. هذا المنصب لم يغتر به عبد الرحمان الذي تقدم لمسابقة أخرى قصد دخول كلية الطب بنيويورك، وتخرجبعد ثلاث سنوات، ثم تخصص في الطب الباطني بجامعة بنسلفانيا، وهنا حدث الاستثناء، ففي أمريكا إما أنيكون الطبيب طبيبا إكلينيكيا أو يكون طبيبا "استيوباثي"، ولا يمكن أن يحوز الطبيب شهادتين اثنتين فيالتخصصين، لأن الأمر صعب جدا، لكن الجزائري عبد الرحمان تخرج من الجامعة وهو يحوز الشهادتين،واحتارت الجامعة في التعامل معه، والطريقة التي تمنحه بها الشهادة، وأي شهادة ستمنحه، وتطلب الأمراجتماعا طارئا أعلنت نتائجه بعد أسبوع، فقد تقرر خلق شهادة جديدة الأولى من نوعها في تاريخ المعهد،تحمل التخصصين، وحصل بها المعني على جائزة الأسد، وانصرف بعدها للبحث في دراسات حول سرطانالبنكرياس..
بوتفليقة طلب منه العودة إلى الجزائر "دكتورا".. والمير منحه شهادة بطال تحول محوري آخر، كان في حياة الباحث الجزائري عام 2004، عندما زار الرئيس بوتفليقة أمريكا، وهناكطلب من الأدمغة المهاجرة العودة إلى البلاد لبنائها بسواعدهم، وتكفل السفير بالاتصال بهذه الأدمغةوضمنهم كان عبد الرحمان، وتم الالتحاق بالجزائر، وكانت الفكرة فتح مركز أبحاث رفقة صديق آخر جزائري،ومن هنا بدأت المتاعب، فمن إدارة إلى إدارة، ومن مسؤول إلى آخر، واستمر الوضع ثلاث سنوات. وكان من بين المسؤولين الذين استقبلوا عبد الرحمان، والي سطيف آنذاك وهو وزير الداخلية الحالي نورالدين بدوي، الوالي أبدى استعداده لمساعدته وحاول تسهيل الأمور له، لكن القرار كان على أعلى مستوى،وتحول طلب وثيقة واحدة يجر معه 20 وثيقة أخرى، وانطلق المشوار من وزارة إلى وزارة فقط من أجلالحصول على مطابقة للشهادة الأمريكية، وبعد إنهاء الملف، وتحويله إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي،أخبره مسؤول في الوزارة أن الإجابة ستكون في غضون 5 إلى 10 سنوات، وبما أن الأمر غير ممكن، لأن الانتظاريعني التخلف عن التطور الذي يشهده العلم يوميا، طلب الطبيب لقاء مع الوزير آنذاك وتكفل بالمقابلةرئيس الديوان الذي اقترح عليه وبالشهادات التي حصل عليها التدريس بالجامعة مقابل 3.5 مليون سنتيم،وبعد أشهر قليلة اتصلت السلطات السعودية به وبزميله واقترحت عليهما الالتحاق للعمل على مستواهانظير رواتب خيالية فاقت 100 مليون سنتيم وامتيازات، فاستجاب صديقه، ورفض هو، لأن هدفه كانالبقاء بالجزائر. مد وجزر، وذهاب وإياب، ومكوث تحت أشعة الشمس لساعات أمام المديريات، ولعل أهم ما يذكر عبدالرحمان هو تعرضه للتعنيف عندما حاول الحصول على نسخة من شهادة البكالوريا.. مرت ثلاث سنواتوالطبيب بالجزائر والحلم يراوده لإعادة الجميل للبلاد وتأسيس عيادة نصف نفعية تداوي بالمجان المعوزين،ويدفع الميسورون حقوق العلاج، وتقدم تمارين للطلبة وتكوين المختصين بالتوأمة مع مراكز أمريكية أكدتاستعدادها للمساعدة.. ولكن.. تحول الطبيب المختص النابغة الذي وجد كل الظروف مهيأة للإبداع فيبلد الغير، إلى بطال ومحتاج في هذه الفترة، ونفدت كل أمواله، واضطر لبيع سيارته قبل أن يصاب بالكآبةويلازم المنزل، ويتكفل والده المسن بمصاريفه.. وجاء القرار عام 2007 بالعودة إلى أمريكا، فكل الطرقمسدودة وكل الآفاق مظلمة.. تنقل الطالب السابق إلى الجامعة للحصول على شهادته ففوجئ برد الإدارة،فقد أخبروه بأنه غير مسجل وغير موجود أصلا في قائمة الطلبة، فجع عبد الرحمان ولم تستوعبه الأرض وطلبمقابلة رئيس المصلحة، وعاد الأمل بعد أن تعرف عليه رئيس المصلحة فهو زميل سابق في الجامعة ويعلمبأنه كان نابغة، هذا الأخير لم يشف غليله ولم يمنحه الشهادة، لأنها وبساطة حرقت مع ملفات العشرات منقبل الجماعات الإرهابية سنوات التسعينيات.. وبدأ بصيص الأمل يظهر عندما تنبه عبد الرحمان لوجود شهادة مماثلة على مستوى الجامعة السورية وتنقل إلىهناك، وكان طقم الدراسة الذي ستر جسده سنوات ملجأ للحصول على سعر التذكرة، فباعه وطار إلىدمشق، ومن ثمة إلى أمريكا، وهناك وجد نفسه قد تراجع لسنوات عما تطور فيه أقرانه.. وتكفلت السلطاتالأمريكية بدفع تذكرة السفر وجهزت له سيارة فاخرة أوصلته إلى أفخم الفنادق، فأمريكا يسعدها أن يعودإليها "عقل مفكر" دفعت حقوق دراسته في التخصص أكثر من ملياري سنتيم كدين، لأن المجان يعني أنتبقى بأمريكا، وعبد الرحمان اختار الجزائر، واختار أن يبقى الدين على عاتقه وفقا للقوانين الأمريكية لأجل 30سنة.. بدأت العروض تتهاطل فقط من أجل إمضاء عقد بالانتماء لأية مؤسسة استشفائية.. وتم توقيع عقدمع "مستشفى مونتن فيستا ميركال سنتر" أريزونا، واشتغل بعدها في مستشفيين آخرين.. واشتغل طبيباوباحثا وأستاذا بجامعة "نيدواسترن"، ومدير البرامج العلمية لتكوين الأطباء في الأمراض الباطنية.. هذا الأخيرهو البرنامج الذي حلم بتحقيقه على أرض الجزائر.. ويشرف حاليا على الأطباء المقيمين ومديرا طبيا لشركةالأطباء الاستشفائيين.. لم تتوقف الشهادات عن معانقة الجزائري المسلم، وكان التزامه وحسن تعامله وتربيته وأخلاقه سلما لشهادةأخرى، فقد فاجأ الطاقم الطبي بالمستشفى الذي يشتغل به شخصه بإعلان اجتماع ضروري حضره 500طبيب ومسؤول، أطلقوا فيه سبر آراء لاختيار أحسن طبيب من حيث الهدوء، الصبر، الحوار، السلوكوالمعاملة، وتقييم آخر يقدمه المريض، واختير شهر ماي 2015 لتقلد الوسام، وحصل على "شهادة شرف"من رئيس جامعة نيويورك وهي أعلى درجة تمنحها الجامعة الأمريكية، وحصل على ثماني جوائز مختلفة.. تحولالتفكير الأمريكي حيال الجزائر فبعد أن كانوا يعتقدون أن الجزائر هي نيجيريا "الجيريا.. نيجيريا" بالنظر إلىالتشابه في الاسم، أصبح اسم الجزائر مقترنا بالإرهاب، وتحول فيما بعد وفي الوسط العلمي إلى جزائرالشهداء.. عندما كان عبد الرحمان يحصل على الجوائز ويخرج من قاعة التكريم يجد الأمريكان منكبون يبحثونعن سر هذا البلد وتاريخه وأصبح الحديث فيما بعد عن جزائر الأمير عبد القادر.. ويستذكر ما قاله له طلبته"نعم، عرفنا الجزائر، نعم هي ذلك البلد الذي ركل فرنسا بعد 130 سنة من الاستعمار.. هي جزائرالشهداء، نعم جزائر مليون ونصف مليون شهيد..".. ما يحز في نفسه هو أنه عندما عاد إلى الجزائر تم تكريمهبشهادة كتب عليها "المهنة: بطال لا يمارس أي عمل بأجر".. بعد أن حصل على شهادتي دكتوراه ودرس لمدة26 سنة دون توقف ومارس التدريس ل14 سنة..
نصائح لشباب الجزائر.. طلقوا الفرنسية وثقوا بأنفسكم فأنتم قادرون عبد الرحمان الذي زار "الشروق" كعقل مهاجر، بكى بحرقة وهو يروي لنا مساره المهني، وكيف أنه درس علىيدي محمد وعلي ويداوي اليوم "ماتيو وكريستين"، ويدرس أبناءهم، يقول أنه لم يختر أمريكا فخرا، ولكن تمالتخلي عنه، اختار رسائل واضحة ومحددة ليوجهها للشباب الجزائري، أولاها أن الجزائريين إن وضعوا في نفسالظروف التي يوضع فيها الأمريكان يمكنهم أن ينجحوا، بل أن يتفوقوا، الحجاب ليس عقدة في أمريكا، وليسمعيارا، والفيصل هو كيف تقدم مهامك.. يذكر أنه عندما تقدم لأحد المناصب تم طرح سؤال عنه هو: منالمسؤول الأول عن المصحة؟ فقال إنه المدير، فقيل له بأنه المريض ويليه عائلته، وتم تذكيره بأن المسلمينيؤمنون بالقضاء والقدر، وأنه في الطب كل خطأ يتحمله الطبيب ويحاسب عليه.. وهنا المهم هو أن يتحملكل مسؤول مسؤولياته كاملة مهما كان منصبه.. يقول أن الجزائر تمتلك من الكفاءات الكثير ولكنها مكبلة، وطالب بضرورة الاهتمام بالأطباء والممرضينوالمستشفيات والتركيز على تطوير الأبحاث.. ويذكر مثالا عن الإهمال الذي تعانيه الصحة أنه زار إحدىالمؤسسات الاستشفائية فوجد قائمة عن الأمور التي تصرف فيها الميزانية، وكان كل شيء حاضرا عداالبحوث التي نالت نسبة صفر في المائة من الميزانية.. نصيحة أخرى، يعتقد الطبيب أنها مهمة.. هي عدم التبعية لفرنسا والتحول إلى دراسة الانجليزية وتعليمها،فهي لغة العلم والتخلي عن الفرنسية سيجعل الجزائر تتخلى عن تبعيتها للمستعمر القديم.. "الثقة هيضرورة، أيضا فلا أحد أفضل منك"، يقول أنه عندما سافر إلى أمريكا فكر في أنه قد يفشل، ثم فكر وقال أنهيجب أن يبحث عن أمور تجعله يتقدم ووجد أن معدل ذكائه يعادل معدل ذكاء الأمريكيين بشكل طبيعي، ثمفكر في الوقت فوجد انه يمكنه الدراسة أيام الراحة والأمريكان لا يمكن أن يفعلوا ذلك، لأن العطلة مقدسةلديهم.. ومن هنا بدأ التفوق.. واليوم يحضر لبحوث في اللبتينغ "دواء تخفيض السمنة"، النلوكسول لعلاج داءكرون، سرطان البنكرياس، بحث لزرع الخلايا الجذعية، وآخر لإعادة النبض للقلب، وآخر لمساعدة المريض فيالإنعاش، وهذا الأخير يتم بالتعاون بين أمريكا واليابان.. رسالة الطبيب للسلطات الجزائرية، هو فتح الباب أمام الكفاءات الجزائرية المهاجرة للعودة إلى الجزائر.. فهويعتبر نفسه فاشلا، لأن والديه وأقاربه وأبناء وطنه لم يستفيدوا من تقدمه في العلم.. ويقترح تخصيص مكتبلاستقبال هذه الكفاءات وتسهيل التعامل معها وإجراءات التحاقها..