ليلى أعراب كارثة إنسانية تدمى لها القلوب، بطلها كالعادة الإهمال الطبي، "أميرة" الملاك البريء الذي لم يتجاوز عمره الساعتين فقط، تتحول إلى كتلة متفحمة تفقد أصبعها، ويشوه الآخر بسبب انفجار مصباح كهربائي في غرفة المواليد الجدد بعيادة طبية خاصة متخصصة في الطب والجراحة، ولكنها أضحت اليوم متخصصة في اللامبالاة أيضا، كنموذج حي للعيادات التي تضع "الربح" فوق كل الاعتبارات الإنسانية. وتكشف "الحوار" خلال لقائها بأسرة "أميرة" خارج أسوار مبنى محكمة بئرمرادرايس بالعاصمة يوم محاكمة مسئولي العيادة الطبية الخاصة المتسببة في تشوهات للرضيعة التي تناهز اليوم سن الثمانية عشر شهرا، فصلا آخر من فصول الإهمال الطبي الذي اشتهرت به هذه العيادة، وللمرة الثانية على التوالي تحال على العدالة، بعد حادثة تغيير الرضع التي تطرقنا إليها في عدد سابق. "أحلام" دخلت العيادة زهرة متفتحة وخرجت منه "محطمة" تروي "أحلام" والدة الضحية الملاك بأنفاس متقطعة وعيون تفيض بالدمع، على الرغم من مرور قرابة العامين عن الحادثة، مأساة طفلتها التي تشوهت وفقدت أصبعها بعد أن حولها إهمال العيادة الخاصة إلى كتلة متفحمة بآثار ندوب على وجهها لم تشف إلى يومنا هذا، وأصبع مبتور وآخر مشوه، أحلام التي دخلت العيادة لتضع مولودها بعملية قيصرية حفاظا على حياته، بعدما فقدت ابنها الأول في فترة الحمل، خرجت منها محطمة نفسيا، بعد تعرض ابنتها لحادث أليم داخل العيادة. تقول أحلام: " لطالما انتظرت موعد ولادتي لأحمل ابنتي بين ذراعي، أنا متزوجة منذ سنين، وشاء اللّه أن أفقد مولودي الأول أثناء فترة الحمل، كنت فرحة باقتراب موعد ولادة طفلتي، ومتشوقة لضمها بين ذراعي" وبكلمات متقطعة تضيف "لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، حسبي الله ونعم الوكيل فيهم". وتتابع قولها "تنبهت يومها لوجود مشكل تقني في الكهرباء داخل العيادة التي وضعت فيها ابنتي، فسارعت بالاتصال بالممرضة المناوبة آنذاك، لكنها أكدت أن الأمر عادي ولا يستدعي القلق، لأفاجأ بعدها بصراخ مدوي للرضع صادر من غرفة المواليد الجدد بالعيادة، حملت نفسي مثقلة بخطوات تكاد تكون مميتة، فأنا خرجت للتو من عملية توليد قيصرية، لأصدم برؤية ابنتي كتلة متفحمة سوداء، لم أتحمل رؤيتها في تلك الحالة فأغمي علي من هول المشهد. الممرضة من دور مراقبة الرضع إلى مساعدة القابلة ولم تكن الممرضة التي أسندت لها مهام مراقبة قاعة المواليد الجدد، باعتبارها تشغل المنصب نفسه في المؤسسة الاستشفائية بشير منتوري بالقبة، متواجدة يومها في القاعة، بل كانت في جناح التوليد لمساعدة القابلة نظرا للنقص الكبير في الموظفين على مستوى هذه العيادة الخاصة، وتوجهت إليها لما تفطنت لدوي انفجار مصباح كهربائي وانتشار رائحة احتراق البلاستيك الصادر عن تلك الغرفة، وما كان بوسعها أمام انعدام الإمكانيات في العيادة سوى نزع ملابس الرضيعة، وإخفائها عن الأنظار، لتتنقل بعدها بكل برودة وتأمر أم الضحية بالاتصال بزوجها لأخذ ابنتها المصابة إلى عيادة باستور لتلقي العلاج، كون العيادة لا تحوي على مصلحة متخصصة في علاج الحروق العميقة من الدرجة الثانية. العيادة تسارع إلى طمس آثار الجريمة بدل التكفل بالرضيعة، والغريب في الأمر حسبما استقي من مجريات محاكمة عيادة "آية" بجنحة الإهمال الطبي والجروح الخطأ أمام محكمة بئرمرادرايس، أن مسئولي العيادة لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء الاتصال بوالد الرضيعة، ولم يقدموا على التكفل النفسي بوالدتها التي أغمي عليها عقب الحادث، ليخاطبها مسير العيادة: قائلا "الله يبارك أعصابك جامدة" وكأنه لا يدري أنها كانت خارج منطقة الإدراك حينها لتلقيها صدمة من العيار الثقيل بسبب هول المشهد. ولم يكلف مسئولو العيادة أنفسهم لنقل المصابة إلى عيادة باستور بل أخذها والدها بإمكانياته الخاصة، ليفاجأ بعدها عند عودته لنقل أغراض زوجته، بأشغال ترميم في قاعة المواليد الجدد، باشرتها العيادة لطمس آثار الجريمة، حيث أقدمت على دهن سقف القاعة الذي تحول إلى سواد، كما رفض المسئولون إعطاءه ملابس الرضيعة التي تم إتلافها، لإخفاء أي دليل إدانة ضدهم. والد الضحية: ابنتي اليوم محرومة من اللعب في الشارع كبقية الأطفال، وعلى رغم مرور عامين عن الحادثة إلا أن الدموع لم تفارق والد "أميرة" الذي ظل يبكي بحرقة لدى حديثنا معه، قائلا "أنا لم أتصور أن تشوه ابنتي بسبب إهمال عيادة عديمة الضمير.. لجأنا إليها بطلب من الطبيبة التي تابعت حمل زوجتي، ابني الأول توفي، وطفلتي مشوهة اليوم .. لطفك يا الله". وذكر والد الضحية أن ابنته "أميرة" اليوم محرومة من اللعب في الشارع كبقية الأطفال، بسبب أشعة الشمس التي تؤثر سلبا على الجرح الذي تعرضت إليه في وجهها، وآثار الندوب التي لم تشف إلى اليوم لن يستطيع علاجها إلا بعد بلوغ ابنته سن الثماني عشرة سنة، يقول قدمت 7 ملايين سنتيمم إلى هذه العيادة حفاظا على زوجتي التي فقدت ابنها الأول، لتخرج منها محطمة نفسيا، حاملة طفلة مشوهة، شاء الله وحكمته في ذلك، إنها مشيئته يقول، لكن المتسببين يجب أن يدفعوا الثمن ولا صلح معهم إلى يوم القيامة. الدفاع. "أتجرد اليوم من مهنتي لأرافع أمامكم بأمومتي" في مرافعة أبكت حضور قاعة الجلسات بمحكمة بئرمرادرايس، وفقت محامية الطرف المدني في مواجهة القاضي قائلة: "سأتجرد اليوم من مهنتي، لن أخاطبكم بروح المحامي، سأرافع بأمومتي التي انكسرت عفويا من هول ما سمعت، وما شاهدت من صور". وسردت للقاضي تفاصيل الجريمة التي حاول مسئولو العيادة طمسها، من إتلاف ملابس الرضيعة، إلى دهن سقف القاعة التي تحولت إلى سواد، وكشفت عدم مطابقة العيادة لدفاتر الشروط المتفق عليها مع وزارة الصحة، بداية من عدد الأسرّة الذي يفوق النصاب القانوني، إلى عدم مطابقة المساحة مع ما هو معمول به، وقلة الموظفين الذي تسبب اليوم في هذه الكارثة. وفجرت المحامية فضيحة أخرى تسببت فيها العيادة لرضيعة أخرى في المصلحة ذاتهاو اليوم ذاته تعاني من اضطرابات تنفسية بسبب انتشار غاز ثاني أكسيد الكربون نتيجة احتراق المصباح الكهربائي، خصوصا وأن الطاقم الطبي لم يقدم على فتح النوافذ للتخلص من رائحة البلاستيك المحترق، ليتنفسه الرضع يومها، ويسبب لهم ضيقا في الأوعية التنفسية. وقالت المحامية في دردشة مع الحوار عقب المحاكمة لن يشفي غليل أمومتي وغليل هذه الأسرة سوى قرار غلق العيادة، التي تسببت قبل أسبوعين في تغيير رضيعة لأم وضعت مولودها بعملية قيصرية في العيادة ذاتها، وأضافت أن الأخطاء كثرت وأضحت اليوم خطرا على المجتمع، لن نتنازل عن مطلب الغلق. النيابة تلتمس سنتين سجنا نافذا و10 آلاف دينار غرامة وباعتباره ممثلا للحق العام، والمدافع الأول عن حقوق المجتمع، التمس وكيل الجمهورية لدى محكمة بئرمرادرايس سجن كل من مسير العيادة والممرضة المناوبة يوم الحادثة بسنتين سجنا نافذا، مع 10 آلاف دينار غرامة، فيما أجلت المحكمة النطق بالحكم إلى جلسة علنية مقررة بتاريخ 7 أفريل المقبل. وسن المشرع الجزائري قوانين صارمة لمعاقبة كل طبيب يرتكب خطئا طبيا، وذلك من خلال المادة 239 من قانون حماية الصحة وترقيتها، أنه "يعاقب طبقا لأحكام المادتين 288 و 289 من قانون العقوبات الطبيب على كل تقصير أو خطأ مهني يرتكبه خلال ممارسته مهامه … ويلحق ضررا بالسلامة البدنية لأحد الأشخاص أو بصحته"، وعلى الرغم من أن القانون الجزائري قد رتب مسؤولية جزائية للطبيب، على كل تقصير أو خطأ مهني يلحق ضررا بالمريض، تكون عقوبته الحبس أو الغرامة المالية مع توقيفه عن ممارسة مهنته، إلا أن الواقع يشهد عكس ذلك، فهناك قضايا مازالت عالقة في أدراج المحاكم، وأخرى تم التستر عليها فبقيت طي الكتمان.