تابعتُ الملحمة الضخمة التي قدّمت على ركح مسرح الزينيت على هامش افتتاح تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، ووجدتني مجبرا أنْ أرفع تحيّة تقدير لفرسان الركح وفرسان الخفاء من مخرجيين وفنيين وشعراء ومؤرخين، جعلوا من هذه الملحمة استثناء رائعا في بداية الحدث، إن هذا العمل الرائع جعلني أحسّ بعروبتي وأمازيغيتي وجزائريتي المقموعة على مدار التاريخ. لقد أجاب هذا العملُ بذكاء كبير، ليس على هوية قسنطينة فحسب، بل على هويتنا جميعا، ولن أكون مغاليا أو مبالغا لو قلتُ إنّني لأول مرة أستمع لعمل فني جزائري بلسان عربي مبين، لكن لماذا أظهر فنانو ركح قاعة الزينيت كل هذه المقدرة اللغوية والتفاعل المتميز مع النصّ؟. سؤال قد يبدو عاديا، فكثير من هؤلاء الممثلين لم يكونوا على المستوى نفسه من الأداء في مرّات كثيرة.. إنّهم ليسوا شعراء ولا كتّابا ولا لغويين؟ أليس من حقّي أن أتساءل عن السرّ الذي جعل أداءهم اللغوي متقاربا على المستويات التعبيرية واللسانية والبلاغية؟. طبعا من حقّي أن أتساءل فيما يشبه الاستغراب والدهشة، لكن تساءلي واستغرابي ودهشتي سيتحوّلان إلى تنهيدة كبيرة تليها ابتسامة واضحة تملأ وجهي وتمنحكم جميعا فرصة الاطلاع على انشراح صدري من خلالها، حين تعرفون أن مَهَمَّة كتابة الملحمة أوكلت إلى شعراء وكتاب ومؤرخين على قدرٍ كبير من الوعي والحسّ الأدبي.. فحين تتشكل لجنة كتابة نص الملحمة من الشعراء الرائعين نور الدين درويش وناصر لوحيشي وعبد الله حمادي، بالإضافة إلى شاعرين آخرين لا أستذكرهما الآن,.,. تدركون بأن هذه الأسماء لن تسمح أبدا أن تتحول نصوصهم من لغة عربية فصحى إلى لغة ثالثة تفقد النص معناه وروحه. العمل أيضا استطاع أن يكون محايدا في شقه الإيديولوجي، لم نجدْ ظلما طال أي شخصية وطنية جزائرية بما فيها ماسينيسا وسيفاكس، لقد تمّ معالجة الأمر بذكاء تاريخي واعٍ، في النهاية أنا متأكد أن ضيوفنا العرب سيعودون وهم متأكدون أن الجزائر ليست العاصمة، وأن العاصمة ليست الجزائر.. هنا وهناك على الأطراف والضواحي ما يجعلُ الآخر يحسُّ بالانتماء إلى هذا الوطن، ولتتأخر كل المشاريع التنموية الأخرى من إنجاز لمرافق ثقافية وترميمات كما تشاء طالما أن المبدع الجزائري كان جاهزا للحدث. فقط أريد أن أشير إلى أمر مهم، كان يمكنُ أن تتوزع الملحمة على مدار سنة كاملة بحيثُ كان يمكن في حفل الافتتاح أن يركز على فترة تاريخية معينة على أن تبرمج في الأشهر اللاحقة أجزاء من هذه الملحمة، مما يجعل المؤدي والمتلقي في أريحية من أمره، ويمكنه من متابعة ملحمة مسلسلة طوال سنة كاملة.