لا نعتقد أنَّ هذه الأسطر القليلة قد تعطي الرّجل جزءا من حقّه، وهو الذي قدّم الكثير للساحة الأدبيّة العربيّة؛ ناقدًا، مُبدعًا، إعلاميًا، فمترجمًا… إلخ، لكن حسبنا أنّ ننقل شهادات كهذه تُمثل اعترافًا –ولو بسيطًا– منّا له على ما أضاف وقدَّم للثقافة العربيّة/ الجزائريّة طول مسيرته الحافلة بالمنجزات. "الحوار" في ملفٍ جديدٍ خاص بالنّاقد، المُبدع، المُترجم الدّكتور السّعيد بوطاجين، تنقل فيه شهادات بعض النّقاد والمُبدعين؛ عن هذا المُثقَّف وأعماله الخالدة. النّاقد الدّكتور إبراهيم صحراوي: "السعيد صديقاً وزميلاً أكاديمياً وناقداً وإنساناً" ماذا أقول عن الصديق العزيز والزميل المحترم والإنسان الطيب السعيد بوطاجين؟ الحقَّ والحقَّ أقول إنّني لا أجد الكلمات المناسبة التي تفيه حقّه، وتحيط بهذه الصّفات الجميلة والمناقب الحميدة. تشرفت بزمالة الأستاذ السعيد طالبا في الجامعتين نفسيهما، ثمّ زميلا في القطاع نفسه، قطاع التّعليم العالي. السعيد متعدِّد المواهب بله الاختصاصات، فهو قاص وروائي متميِّز، وناقد حصيف مُدقِّق. عدّته النّقديّة متعدِّدة المشارب: شرقية وغربية. شرقية بما حصّله في برنامج الليسانس (ومطالعاته) وغربية بما نهله من المذاهب الأدبيّة والمناهج النّقديّة الغربيّة، لا سيما منها البنَوية بتوجُهاتها المختلفة، والسّيميائيّة التي استقاها من منابعها أيام دراسته بجامعة السوربون الجديدة، باريبس 3. هنا لا يفوتني أن أشير إلى ملاحظته الدقيقة أيامها عن العلاقات المختلفة التي تربط بين أطراف النّموذج العاملي الغريماسي وفكرته القائلة بضرورة إعادة النّظر في هذه العلاقات، أي تعديل المسار العاملي فيما يتعلّق بالدافع والفاعل وموضوع فعله والمستفيد. شرقية لم تجعله دوغمائياً جامداً متقوقعاً رافضاً للغرب وما يأتي منه، وغربية أتاحت له الانطلاق في عوالم الفكر والمعرفة التي أنتجها الآخر، مع إدراك تامّ للحدود التي ينبغي الوقوف عندها، ما جنُّبه الانجراف في التّقليد والتّكرار. وهو الأكاديمي المتمكِّن، والأستاذ القدير الذي ينقل هذه المعارف لطلبته في الجامعات التي درّس بها من تيزي وزو إلى خنشلة إلى مستغانم.. وكذا للحضور في الملتقيات العديدة التي حضرها في ربوع الوطن. السعيد متمكِّن جيِّد من لغة الكتابة والتّدريس عنده (العربيّة)، ومتمكِّن أيضا من لغته الثانية (الفرنسيّة) تمكُّنا جعله يُطوِّعها أحيانا لتَسَع علاقات تتجاوز المألوف، يستدعيها التّخييل، ومن ثمّ التّعبير عن مواقف معينة. المفارقة التي يتميز بها السعيد هي النكتة اللاذعة والجدية الصّارمة، سواء أكان ذلك في حياته أم في نصوصه. أحتفظ بذكريات جميلة معه سواء من أيام باريس ودروس (Censier) أو جلسات استوديو شارع كوندوسيه في مونتروي، أو الF2 في شارع سان مور بالدائرة ال11 مع عدد من الأصدقاء وزملاء الدّراسة حينها، أو من لقاءاتنا المتباعدة هنا في الجزائر في الملتقيات والمناسبات الثّقافيّة المختلفة وفي الجامعة، هنا أشير إلى أنني تشرفت مرتين بعضوية لجان مناقشة لأبحاث أشرف عليها: ماجستير عن رواية المخطوطة الشرقية لواسيني منذ أزيد من 10 سنوات، ودكتوراه عن المسعدي منذ أكثر من شهر.. تحياتي صديقي. تمنياتي الطيبة لك.
النّاقد الدّكتور مخلوف عامر: "بوطاجين، الإنسان المبدع .. المبدع الإنسانّ" يكتب د. السعيد بوطاجين القصة القصيرة فيستفزُّك منذ العنوان، إذ يبدو لك غريباً عمَّا ألفته في قواعد العربية كما في: (ما حدث لي غداً) أو مثيراً أخلاقياً كما في: (اللعنة عليكم جميعاً) أو مخالفاً لمنطق تعوَّدتَ عليه: (وفاة الرجل الميت). ولكنْ لا يلبث أن يتكشَّف ما وراء الحجاب الأدبي تدريجياً وأنت تقرأ لغته الميسورة. قد تستوقفك عبارة غير مألوفة وهي من صلب العربية الصافية، أو يضحكك تركيبٌ عجيب أو طُرفة. ولكنه يقودك في نهاية المطاف إلى لحظات من التأمُّل الفلسفي والسّياسي الخفي. وحين يكتب رواية (أعوذ بالله)، فإنه يبقى وفياً لأسلوبه المتفرِّد الذي لا هو تقليدي محض، ولا هو حداثي مستلب. ينتقل من القصة القصيرة حيث يقبض على لحظة عابرة من الحياة عميقة باقتصاد لغوي فيستغني عن كل ما يمكن الاستغناء عنه، إلى الكتابة الروائية، فلا يجعل من طول النَّفَس فسحة للثرثرة الزائدة، بل يُدخل القارئ في عوالم من التخييل بأدواته المعهودة فيطعم الكتابة بالسخرية والتَّوتُّر. فأما إذا كتب في النقد -وهو الذي درس على أشهر النقاد- فإنه يوظف المنهاج النقدي المعاصر بما لا يُفقد النّص العربيّ خصوصيته كما في: (الاشتغال العاملي) فتكتشف النّص الأدبيّ من منظور جديد. وحرصُه على دقَّة المصطلح والبحث عمَّا يعوِّضه في التراث نابع من استيعابه النّظريات النّقديّة الحديثة وأصولها المعرفيّة فلا يأخذها منبتَّة من جذورها كما عوَّدَنا كثيرون. فأما حين يترجم نصّاً، سواء أكان دراسة أم إبداعاً، فإنه ينسحب من ساحته الخاصَّة ليلبس جبَّة صاحب النص، حرْصاً منه على توفير أقصى حالات الوفاء. لكن ما يميِّز د. بوطاجين أيْضاً -ممَّا يندر أن نصادفه لدى كُتَّابنا- ما يتحلَّى به من قيم إنسانية عالية، فهو الأستاذ الذي لا يبخل بالمساعدة، والجليس الذي لا يُملًّ، والمبدع الذي يعرف قيمة الإبداع والحياة، والمحاضر المطلوب داخل الجزائر وخارجها، وفوق ذلك أنه لا يتعالى ولا يدَّعي حتى يتوهَّم مَنْ لا يعرفه كأن الرجل لا يعرف شيْئاً. إنه بحق ((الفنان الذي حياته خير تعليق على إبداعه وإبداعه خير تبرير لحياته)). النّاقد الدّكتور محمد الأمين بحري "السعيد بوطاجين… معنى العلامة الفارقة في الثّقافة العربيّة" – نظرية في الثّقافة: بعد أن أضناني البحث عن تعريف جامع شامل وغير متحيز للثقافة، ظفرت في آخر مكالمة هاتفية لي مع الدّكتور السعيد بوطاجين بتعريف وجيز وعميق للثقافة في خمس كلمات حين قال بعفوية: "الثّقافة قبل كل شيء أخلاق". بل يكفي أن نتوقف عند كلمتي (الثّقافة -أخلاق) لندرك أزمة الثّقافة في الوطن العربيّ، وربما في العالم أجمع، بما تقتضيه من مواقف، ومبادئ، وما تجره هذه الأخيرة على صاحبها من متاعب إن هو تمسك بأخلاقياته التي تصنع وجوده الثّقافيّ المستقل عن التجارة اللاأخلاقية في الحقل الثّقافيّ الذي تتسيد سوقه مخلوقات انتهازية متسلقة تنازلت بما يكفي من كرامة الإنسان ليخف وزنها ويستمر صعودها في سلم المناصب صعود الفقاعات الصابونية التي يرتهن تعاليها بتفسخها. وعلى الضفة النّقيضة لثقافة الهرولة نحو النّفوذ وحرب التّنازلات المستميتة على ماء الوجه، يحيا المثقَّف الخلوق في وفاق مع نفسه ومبادئه وسط كائناته الإبداعية النابضة بالحياة والمعنى، هناك في بيئة الإبداع الحي الذي يسميه المتنفذون "الهامش"، هناك حيث تفجرت عبقريات الفكر الإنساني وروائعه العالميّة، هذا ما فهمته من تعريف المفكر السعيد بوطاجين للثقافة. – رائد السرد الساخر وأدب الهامش: يمكن لمفهوم الثّقافة هذا أن يكون مدخلاً لكل إبداعات السعيد بوطاجين السّرديّة، انطلاقاً من حس مأسوي فجر توليفة من الأفكار التي تستبطن وعياً نقدياً ثقافياً بالحالة الحضاريّة والوجوديّة. بأسلوب ناقد و جذري مغشى، بفنون التخييل والتّمثلات الموقفية الساخرة، بدلالات مأسوية سوداء، ولعل هذا هو السّبب الذي أعجز الأدباء وجعل فن السّخريّة في السّرد العربيّ من أندر فنون الكتابة انتشاراً، حيث يمكن عد كتابه على أصابع اليد الواحدة، وذلك لصعوبة إنجاز مثل هذا الفن المتراكب الآليات (نقد ثقافي وحضاري- عمق فكري متلبس بالمجاز والتخييل، التّشكيل الفني للممثلين والفواعل لتلعب تلك الأدوار، صوغ الحكائي الساخر المتهكم، الخلفية الفلسفيّة، المأسوية السوداء/ الازدواج المفارقاتي (l'ironique) بين جسد النّص وظلاله.. وأعتقد أن توجه هذا الأدب واستيحاء نماذجه من الفئات المهمشة التي يقع عليها ثقل بقية الطبقات الاجتماعيّة، (وحركية هذه الفئات الثّوريّة المهمشة هي الرحم الأصلي للسرد في مختلف المجتمعات) هو سبب انتشاره بين كل فئات المجتمع على اختلاف توجهاتها، وانتماءاتها.. فمن من الشعب الجزائريّ مهما كان مستواه الثّقافيّ، لا يعرف: (اللعنة عليكم جميعاً، أو أحذيتي وجواربي وأنتم، أو وفاة الرجل الميت، أو ما حدث لي غداً) وما تحويه من مفارقات وسخرية في ظاهر الخطاب وباطنه. ولم يكن رواج هذه الأعمال سواء في الأوساط الثّقافيّة والشّعبيّة أو حتى الرسميّة وليد سعي صاحبها للشهرة، ولا تلميع السّمعة، ولا لمصلحة جهات ترويجية أو منابر إعلامية تستقطب الأدباء وتمولهم وتكرسهم، ولا كانت كتابات الرجل مناسباتية تتصيد المواعيد الثّقافيّة والجوائز الأدبيّة، والفرص الإعلاميّة. ببساطة لأن هذه السّلوكيات تتنافى وتعريف الثّقافة الذي افتتحنا به هذه الكلمة، والذي يقتضي اقترانها الوجودي بالأخلاق. – ديدن الحكماء: لا يؤخذ الفكر من الكتب والمحادثات، بقدر ما يؤخذ من الأسفار والرحلات، عبارة قالها سقراط على لسان أفلاطون في محاوراته، وأراها تنطبق على الأكاديمي الرحالة السعيد بوطاجين، الذي -عكس الكثيرين ممن بدأوا حياتهم العلميّة بمؤسسة وحيدة وتقاعدوا بها- بدأ الدكتور بوطاجين رحلته العلمية من مدينة تاكسانة بجيجل، ليشق طريقه العلمي نحو مدرسة باريس السّيميائيّة، ليعود إلى الوطن ويجول بفكره وفلسفته عبر عدة جامعات، في شرق البلاد وغربها ووسطها، ناشراً المعارف، ومناقشاً الرسائل، ومعيناً الطلبة والأستاذة على استكمال بحوثهم ومناقشة مذكراتهم، ومقدماً للجامعة الجزائريّة جملة الخدمات التّقنيّة والأنشطة المعرفيّة والمؤلَّفات العلميّة التي توزعت بين دراسات تطبيقية في السّيمياء (الاشتغال العاملي)، وبحوث في علم المصطلح (المصطلح النّقدي)، وعدَّة ترجمات أدبية وفنية، لعلّ أبرزها (نجمة لكاتب ياسين).. دون أن نتجاهل دوره في دعم الإعلام الثّقافيّ بمقالاته ومساهماته الدّورية، في أركانها وأعمدتها التي كانت إضافات جوهرية نوعية وقيمة مضافة لمستوى تلك الجرائد والوطنيّة والعربيّة. في كلمة حق يمليها واجب الاعتراف بمقامات وجهود الرّجال: أعتقد أن الجزائر وثقافتها مدينتان لهذا العالم الفذ، بكل العرفان والتّبجيل على ما قدم من جهود صادقة في النّهوض بالشأن الثّقافيّ بمختلف مستوياته، فتحية له بحجم المسافة الفارقة التي ما زال يصنعها ثقافة وعلماً وخُلقا.
الرّوائيّ والأكاديميّ الصدّيق حاج أحمد (الزيواني): "السعيد بوطاجين… الصّوفي الذي أعطته الصحراء أورادها" ربما أول ما عرفتُ السعيد بوطاجين، عرفته سماعيا ثم ورقيا وأخيرا واقعيا حين احتكيتُ به.. لا أذكر أني وهبتُ الأبوة لإنسان ووجدتني أتلذّذ بها، إلا لشخصين، أحدهما أبوّة أكاديمية لأستاذي ومشرفي الدكتور الشريف مريبعي، وثانيهما أبوّة أدبية لأستاذي الدكتور السعيد بوطاجين. لعلّ أول ما قرع سمعي من ذكر اسمه، أني أكاد أقرّب ذلك في بداية التسعينيات؛ لكني لا أستطيع أن أحدّد شهرا باسمه أو سنة بعينها، وبالرغم من هذا، أذكر المكان تحديدا، كان ذلك بدار الثقافة بأدرار، رفقة الأخ عبد العالي قوديد رئيس مصلحة النشاطات الثقافية يومها، حين تحدّثنا في تلك العشيّة الخريفية بمكتبه، عن ناقد ومبدع محترم، بدا لي عبد العالي مبهورا بما يقدّمه السعيد بوطاجين على مستوى النقد الأكاديمي، منذ ذلك اليوم، أعترف أن هذا الاسم أحدث وشوشة في أذني فطربت له نفسي. سار الحال بي، حتى استوى لي ظهر الفرس، عندما نجحتُ في مسابقة الماجستير بالعاصمة سنة 2003، عندئذ وجدتني كفأر يتسلّل شقوق مكتبات العاصمة العامرة، فتعرّفتُ ورقيا عبر سياقات زمانية ومكانية متعددة من محيط العاصمة، على شخص شدّني واستفزتني عناوينه الساخرة، ك (وفاة الرجل الميت) و(اللّعنة عليكم) و(حذائي وجواربي وأنتم) وأخيرا (أعوذ بالله). أعترف أن وشوشة السماع وحفيف الورق، قد مهدا طريقهما للملاقاة الكبرى مع السي سعيد بوطاجين، كان ذلك بملتقى السرديات بولاية أدرار سنة 2012، أراه أمام ناظري إنسانا لطيفا أنيقا في ملبسه وكلامه كالخالفين المتكاثرين بيننا، متواضعا في علمه، كأنه من الأولياء السابقين المنقرضين.. أذكر أننا اقتربنا إلى بعضنا كثيرا ولعلّ رفيق دربي الأستاذ عبدالله كروم قد ساهم في بناء هذه العلاقة الحميمية بيننا، لكثرة ما ذكره لي وذكرني له قبل لقائنا.. قلتُ ولا زلت.. ألا إنسان يجعلني مصابا بالعطب كالعالم المتواضع.. أجلّه.. أقبّل التراب الذي يمشي عليه.. وأحسب سي السعيد من طينة هؤلاء العظماء.. بالمقابل لا أتردّد، بل وأعلن في جهرٍ وزهوٍ تمرّدي على الضحالة المتكبرين، الذين هم في حقيقة أمرهم قش من متاع بال.. ما أدهشني حقا في هذا الإنسان العظيم، صوفيته التي تشبه أهل الصحراء، يجد في رملها علامة.. وفي صمتها وسكونها غراما.. يُجلّ الطين ويعشقه حد الوله.. يدلّله.. يعشقه.. حتى أشفقنا عليه..
الرّوائيّ والشّاعر علاوة كوسة: "السّعيد بوطاجين… أيقونة الأدب الجزائري بلا منازع" نادرون أولئك الذين مروا في الحياة برؤى الأنبياء، واجتهاد العلماء، وهيبة النّساك، ووقار المبدعين، وتيه الزّهاد، وتواضع العارفين، والسعيد بوطاجين أحد هؤلاء القلة النّادرة البهية، هذا الإنسان الذي صار بكل هذه الصفات النّادرة الجميلة أيقونة الأدب الجزائريّ بلا منازع، ورمزا من رموز البحث العلمي الجاد العميق الذي يأتيك بالمعرفة من مصادرها الأصلية الصحيحة السليمة. الحديث عن السعيد بوطاجين هو من باب المجاز، لأن الإلمام بجوانب شخصيته ضرب من الاستحالة، فهو قامة علمية شاهقة وظاهرة أدبية لافتة، وقلم نقدي جاد وحاد، ومترجم يفقه سحر الوجهين في العملة الواحدة، وهي صدق نقل الآخر إلى المتلقي في الضفة اللّغوية الأخرى. لو تحدثت عن السعيد بوطاجين لاعتدلت في جلستي اللّغويّة والعلميّة وقلت بأنني تلميذ وطالب سابق للأستاذ الدّكتور في مرحلة الماجستير واستفدنا منه أيما استفادة، وفي تلك المرحلة اكتشفنا كيف يمكن للعلماء أن يكونوا أنبياء في العرفانيّة والاستشراف والصدق والرؤيا وفي التواضع أيضا، وكان من أخلد الأساتذة في حياتي وأكثرهم تأثيرا علي وقد صرت زميلا في التّعليم العالي، ولكن مجازا لأن الحقيقة أنه المعلم الأكبر للجيل، كما أنني في الحياة الأدبية كنت متابعاً لنصوصه الرّوائيّة والقصصيّة السّاحرة السّاخرة التي تفردت بنقد الواقع المعيش بفن جميل ساخر، ورسمت واقعا مأمولا بأسلوب ساحر، كما أن الأعمال النّقديّة لبوطاجين تكاد تصنع مع نماذج نقدية قليلة في الجزائر المشهد النقدي الجاد ذا المرتكزات العلمية والمعرفية القيمة، وأنا أصغر من أن أقيم هرماً نقدياً وفناناً في التّرجمة، وما ذلك بغريب عن مبدع ناقد مترجم يتنقل بين الأجناس والفنون عبر جسور حريرية من معرفة وجمالية وفن يعكس شخصية هذا الرجل الذي عبر التاريخ والجغرافيا والمعارف والفنون، وعبر قلوب كل من عرفه أو قرأ له أو عنه أو سمع له وعنه، فتحية إجلال لأبي وأستاذي وسيدي السعيد بوطاجين.
الرّوائيّة السّودانيّة آن الصافي: "السعيد بوطاجين .. نموذج الرجل العالم والمبدع الحقيقي" التقيت القدير بملتقى الشارقة الثاني عشر للسرد سبتمبر 2015، خلال مناقشة عرض فيها ورقة بعنوان (القصة سؤال الواقع والخيال). تميز حديثه بالهدوء والبساطة مع ابتسامة لم تفارق محياه، وختمه بجملة ساخرة جعلت المشاركين بين علامة استفهام وتعجب، حيث بعد أن تناول عبر أكثر من ثلث الساعة المحور الذي تحدث عنه بكل رصانة وثبات، وعرض بموضوعية نقاط غاية في الأهمية والتّميز، ولكنه ختم بأن رأيه يقبل التّغيير، لأن كل شيء كما ذكر في حديثه عن القصة القصيرة في الوطن العربيّ: الخيال الغيري؛ حيث قال: كل التّقييمات والملاحظات التي تناولتها تدخل في باب النّسبية، إذ يتعذر علينا إطلاق أحكام على منجز متحول باستمرار. عبر أيام الملتقى تناولنا الحديث في عدة مواضيع، عن واقع الثّقافة في الوطن العربيّ في الوقت الراهن. ويرى الدّكتور بوطاجين أنه يأسف بأن يجد المتلقي العربيّ مبهوراً بكل ما هو مستورد، وخاصة فيما يتعلق بالإبداع والنّقد؛ حيث أن الأصل موجود لدينا، وهناك مراجع تثبت حقيقة أننا سابقون وليس بشكل عشوائيّ؛ ولكن عن دراسة وبحث متعمق. لمست فيه اللّمسة الإنسانيّة الشّفيفة والمرحة كمبدع، عبر حديثه عن الفوائد التي يقدمها الأدب الهادف للمجتمعات وما يحملها إلى قمة العطاء والوعي بعيداً عن ظلاميات الجهل والإرهاب. كما تميزت آراؤه بالمواكبة للمعروض والحيادية لما فيه مصلحة النّقد والإبداع على حد سواء، حيث عبر حديثنا عن ورقة نقدية قدمها أحد المشاركين لمنجز مقدم من مشارك آخر بعد أن اتفقنا أنه كان رأي الناقد صادما وقاسيا، قال الدّكتور بوطاجين: "جيد! نحتاج هكذا نقاد لأن لدينا هكذا نصوص!." أ. د بوطجين نموذج لرجل عالم ومتواضع، كما أنه مبدع حقيقي يبحث عن الجودة والتّميز في أدائه. أتمنى له دوام النّجاح والتّوفيق.
الرّوائيّة فضيلة الفاروق: "السّعيد بوطاجين … المثقف الذي نفتخر به" علاقتي بالصديق السعيد بوطاجين بدأت من خلال قراءتي له. كانت اللّغة وسيطاً جيّداً لجمعنا إذ اكتشفت ثقلاً حقيقياً في كل ما يقدّمه. ولعلّي أردت أن أتعرّف عليه حين قرأت له أول ترجمة لمالك حداد، لكن خوفي من أن أصطدم بالشخصيّة التي تختفي خلف النّص، والذي عانيت منه مع مشاهير الأدب ونقاده، جعلني أبقى بعيدة مُتَابِعة وقارئة أنهل من نتاجه الجيّد الذي يصلني عبر الأصدقاء أو ما أقتنيه حين أزور الجزائر. ولكن كما يقال "ربّ صدفة خير من ألف ميعاد". التقينا منذ سنوات في فندق السّان جورج بالعاصمة خلال فعاليات مهرجان أدب الشّباب وما لمست فيه سوى كل الصفات الجيّدة التي تجعل من الرّجل مثقَّفاً حقيقياً نفتخر به. هادئ، رزين، صاحب نكتة حاضرة، وخفة دم لذيذة، صادق مع نفسه ومع الآخرين. من الأكادميين والمبدعين الذين لهم ضمير فعلا وبعيدون تماما عن التّملق والمجاملات والحسابات من تحت الطاولة. أقول هذا وأنا أعرف أني لم أعطه حقه الكامل، لأن الرجل قامة إبداعية وأكاديمية، وقدم خدمات للجزائر لا تعد ولا تحصى، ولكننا مجتمعات تنهشها الغيرة وبعض الظّلال التي سلطت عليه من كثيرين لا سبب منطقي لها سوى غيرة شخصية. لو أننا منحنا له ولأمثاله مكانتهم التي يستحقونها وألقينا عليهم الضوء بدل محاولة تغطيتهم لكان مشهدنا الثّقافيّ من أقوى المشاهد على الإطلاق. لن أقول إنه فريد من نوعه، ولكنه من الممتازين الذين لا يعملون من أجل إبراز أنفسهم. إنه مجرد من الأنانيّة المتوحشة التي تسكن قلوب البعض وهم يستحوذون على المشهد وحدهم وهم لا يعرفون بذلك أنهم يقزمون دور الجزائر وقدراتها الإبداعيّة.