تمر 59 سنة على اعتقال الزعيم الجزائري الشهيد العربي بن مهيدي، صاحب المقولة الشهيرة "ألقوا بالثورة الى الشارع يحتضنها الشعب". قتل الشهيد غدرا، وكان الآمر بقتله هو زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يُمتدح حتى اليوم على انه الرجل الذي ألغى احكام الإعدام، رئيس فرنسا الأسبق، فرانسوا متيران، الذي كان وقت تصفية "سيده" العربي بن مهيدي، وزيرا للعدل وحافظا للاختام، وسجل عامله بالجزائر القاضي بيرار وثيقة العار، الذي زعم ان العربي بن مهيدي انتحر في زنزانته مستخدما قميصه كحبل. والقاضي بيرار معروف بقساوته في الحكم على المجاهدين بالموت والزج بهم للمقصلة. ويقول المحامي جاك فرجيس ان الوزير فرانسوا ميتران امر بتصفية بن مهيدي وأعطى الامر عن طريق القاضي بيرار، وهو ذات القاضي الذي اطلق سراح ياسف سعدي في سبتمبر 1955 بعد ان تعهد هذا الاخير بالعمل مع الشرطة والجيش الفرنسي بتقديم معلومات عن الثورة. وكثرت بعدها الروايات والتفاصيل في كتب صدرت عن قادة عسكريين كبار، أمثال الديغولي الكبير الجنرال ماسو، في كتابه "معركة الجزائر"، مؤكدا فيه –بصفته القائد الاعلى للفرقة العاشرة للمظليين- ان العربي بن مهيدي انتحر. بالنسبة الى الجزائريين، وحتى الفرنسيين، فإن لا أحد صدق أن الرجل الذي شاهدوه في التلفاز عند إلقاء القبض عليه مغلولا بارق العينين مبتسما ابتسامة عريضة، يمكن ان يفعل ما لفق له. لكن الغريب ان يطل علينا، خمسين عاما بعد الاستقلال، "الزعيم" الكبير لما يسمى "معركة الجزائر" -التي صنع منها فيلما لعب فيه شخصية نفسه- السيناتور و"الكولونيل" ياسف سعدي، ليقول في 18 فيفري 2013 ان العربي بن مهيدي قتل برصاصتين، وأنه عذب عذابا شديدا. هكذا قال سعدي امام طلبة وكأنه كان يتفرج على الشهيد عندما كان يعذب، رغم ان سعدي تكلم كثيرا عندما ألقي عليه القبض دون ان يُعذب! وأجاب على الأسئلة التي طرحت عليه وكذلك التي لم تطرح، وقال مؤخرا –كاذبا- إنه لا يعرف المجاهدة الفحلة لويزة ايغيل آحريز، وأنها لم تتعرض للتعذيب، وكأنه كان يتفرج عليها عندما لم تكن تُعذب. ولم يتكلم الزعيم ياسف سعدي (الذي ألقت عليه المخابرات الفرنسية القبض بباريس في 25 ماي 1955 ثم اخلت سبيله ليصبح قائد المنطقة الحرة، ثم اعادت اعتقاله بعد ان فككت منطقة الجزائر الحرة في سبتمبر 1957) عن استشهاد علي لابوانت وحسيبة بن بوعلي والصغير عمر ياسف وبوحميدي في اكتوبر 1957، رغم أنه كان شاهدا ودلّ المظليين على مكانهم، وتحدث معهم في المخبأ بمكبر الصوت طالبا منهم الاستسلام، لكنهم استشهدوا وبقي سعدي ياسف البطل والسيناتور يقص علينا ترهات يصعب تصديقها عن رجال اكبر منه بكثير، باعتراف عدوهم قبل سعدي. سعدي لم يتحدث عن قتل بن مهيدي برصاصتين في فيلمه وكتبه، وخاصة على شاشات التلفزيون الفرنسي، حيث كان يظهر في السبعينيات مع روجي ترانكيي، اكبر السفاحين، وضابط المكتب الخامس (الحرب النفسية)، ولم يحدثنا عن سبب الأمر الذي اصدره عبان رمضان بتصفية ياسف سعدي، والذي لم ينفذ.. سعدي قال انه كان شاهدا بعد الاستقلال، دون أن يذكر تاريخا دقيقا، على إعادة دفن رفات الشهيد بن مهيدي، حيث يكون قد لاحظ آثار رصاصتين على الرفات، وهو خبر لم يقل به غيره، ولم يوثق ليؤخذ به. ولم يقل سعدي إن كان قد حضر اعادة دفن رفاة عبان رمضان، رفيق بن مهيدي، أو إن كانت هناك رفات أصلا في قبر عبان. لكن العربي بن مهيدي، الذي قتلته الدولة الفرنسية -ولا يغير ذلك ان كان قتله قد تم بالصواريخ او الرصاص او السكين- رجل أكبر من ان يستخدمه سفهاء كسجل تجاري. لقد كافح في صفوف حزب الشعب منذ صغره، وكان احد مؤسسي المنظمة الخاصة وقائد الناحية الخامسة قبل ان يعود الى العاصمة في 1956 لتحضير مؤتمر الصومام، تاركا قيادة الولاية الخامسة لنائبه عبد الحفيظ بوصوف، وهذا بعد ان عاد من مصر يائسا. في فيلم وثائقي، ل"إيف بواسي"، أُخرج عام 2006، صرح الكولونيل "جاك آلير"، الذي كان ملازما أول عندما ألقى القبض على الشهيد العربي بن مهيدي عام 1957، قائلا: "لو أنّ لي أنْ أعود الى الانطباع الذي شعرت به عندما ألقيت عليه القبض، وكل الليالي التي تحدثنا فيها معا، فإني أود أن يكون لي رئيسا مثل هذا الرجل".. "من جهتي، كنت أود ان يكون لي رجال كثيرون بتلك القيمة وهذا الحجم، فقد كان ‘سيدا عظيما'، إنه يبهر بالهدوء والجدية والقناعة، وكنت اقول له: ‘انت زعيم التمرد، وأنت الآن بين ايدينا، وقد فشلت معركة الجزائر' وكنت اضيف قائلا: ‘لقد خسرتم حرب الجزائر الآن!'، فكان يرد: ‘لا تعتقدوا بهذا!'، وكان يذكرني بنشيد المقاومين قائلا: ‘سيأخذ شخص آخر مكاني'.. هذا ما قاله لي بن مهيدي".. "سلمناه الى القيادة العامة، إلى فرقة جاءت لتأخذه ليلا، رغم ان القانون يمنع ذلك، قدمنا له سلاحا، لأنه يجب الاعتراف للعدو بالقيمة والشجاعة، وبن مهيدي كان بالنسبة لي رجلا عظيما". وفي 03 مارس 2007، الذكرى الخمسون لاستشهاد الزعيم العربي بن مهيدي، اضاف الجنرال (السفاح) أوساريس، تفاصيل اخرى عن ظروف اغتيال واستشهاد البطل الجزائري، وذلك ست سنوات بعد الاعتراف الذي نشره في كتابه "الأجهزة الخاصة 1954-1957": "في ليلة 03 الى 04 مارس 1957، اقتيد بن مهيدي في سيارة جيب بسرعة فائقة نحو متيجة، وهو يعلم ما كان ينتظره، وتُرك ينتظر في ضيعة أحد الكولون، في حين كان أوساريس وستة من رجاله يحضّرون لإعدامه.. مرّروا حبلا عبر قنوات التدفئة الموصولة بالسقف، ووضعوا مقعدا صغيرا، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما أدخل بن مهيدي الى القاعة، واقترب منه احد المظليين ليضع عصابة على عينيه، لكن العربي بن مهيدي رفض، فقال له المظلي انه امر، فرد بن مهيدي: ‘انا شخصيا عقيد في جيش التحرير الوطني، وأعلم ما هو الأمر'.. وكانت تلك آخر كلماته. ورفض الرائد أوساريس تلبية طلب العربي بن مهيدي، وبعينين معصوبتين لم يقل العربي بن مهيدي شيئا حتى النهاية". وأضاف أوساريس في شهادته للصحفية فلورنس بوجي أن الجلادين اضطروا الى إعادة العملية مرتين، ففي المرة الأولى تمزق الحبل. ان اطروحة شنق العربي بن مهيدي يؤكدها المجاهد محمد شريف مولاي.. الشنق وليس الرمي بالرصاص. ففي مساء الاثنين 04 مارس 1957، ذهب الشاب المراهق يومها الى مصلحة حفظ الجثث بسانتوجان، لاسترداد جثمان والده الذي قتله المظليون في الليلة السابقة بالقصبة: "كانت هناك جثة ممددة على طاولة حديدية، عليها سروال رمادي وقميص ابيض وسترة، علق على اكبر أصابع أحد رجليها بطاقة صغيرة مكتوب عليها ‘بن مهيدي'.. عرفت مباشرة وجهه، وفي الصباح نشرت صوره على الجرائد التي اعلنت موته". ويتذكر محمد الشريف مولاي ان جثمان بن مهيدي لم يكن ينزف، ولم يكن به أي أثر للرصاص او الدم، لكن زرقة شديدة مائلة الى الحمرة كانت تحيط بأعلى عنقه. اما شهادة المجاهد إبراهيم شرقي، في الذكرى الخمسين لاستشهاد بن مهيدي (وقد كان محتجزا في زنزانة ملاصقة لزنزانة العربي بن مهيدي، واستلم من الملازم آلير ساعة بن مهيدي الذي طلب ان يمنحه اياها): "منذ إلقاء القبض عليه في 23 فيفري 1957 بنهج كلود ديبيسي بالعاصمة، اقتيد العربي بن مهيدي الى سكالا، قريبا من الابيار، احد معسكرات وحدات الكولونيل مارسيل بيجار، ومكث هناك حتى ليلة 03 الى 04 مارس، تاريخ اغتياله. كانت زنزانتي ملاصقة لزنزانته، كنت اسمع صوته كل مرة يأتون فيها لأخذه الى مكتب بيجار في البناية المقابلة، وكان ذلك يتكرر كثيرا بين الزنزانة ومكتب بيجار. وفي مساء 03 مارس، جاء مظليون لأخذه لآخر مرة". شرقي لم يشهد على ما لم يرَ او على ما لم يسمع، عن المكان الذي اقتيد اليه بن مهيدي، ولكنه قال: "ما اعلمه هو أنه قبل ثلاث ساعات من إخراج بن مهيدي من زنزانته، دخل علينا الملازم آلير في زنزانتي التي كنت اتقاسمها مع الاخوة عبد الحميد بن شيكو وعمر سيفاوي ونور الدين اسكندر، سألني ان كنت اعرف بن مهيدي فأنكرت دون تردد، فأعاد السؤال نفسه بالإلحاح نفسه، فقلت ربما يكون طريقنا قد تقاطع في احد مخيمات الكشافة بتلمسان عام 1944، فقاطعني قائلا: طيب، طيب، ليس لي ان ادخل في هذه التفاصيل، لقد طلب بن مهيدي أن اسلمك هذه الساعة.. سألته لماذا يمنحني الساعة وأنا لا اعرفه، جلس على الارض وقال: يبدو انها سوف لن تنفعه في شيء.. وبعد انصراف آلير قلت باكيا لبن شيكو وسيفاوي واسكندر ان بن مهيدي سيعدم". ايها الشهيد البطل الرمز لقد تجرأ احدهم منذ عام وقال انك لم تطلق رصاصة ولم تفعل شيئا تقريبا، لذالك نقول لك في ذكرى استشهادك ال 59 ‘عفوا على ما بدا من السفهاء منا يا شهيد' أوبترون منتصر