لم أزْعم يومًا أنني مُؤرِّخ، لكنني قارئ نهم للتاريخ وخصوصا تاريخ بلدي، فعندما نبسط أمامنا الخارطة الجغرافية لأي بلد كان، يحق لنا ونحن نمارس الكتابة والسياسة أثناء الكتابة أن نضع الوقائع والأحداث أمامنا، ندرسها نُحلِّلُها بدقة، نبسط أمامنا الوثائق ونستمع إلى الشهود من هنا ومن هناك لكي نصل إلى بعض الحقائق التاريخية كي تكون كتابتُنا موضوعية. وقد قرأتُ هذه الأيام كتابا صدر في باريس بالفرنسية العام الماضي 2015 للصحفي رشيد أرْحَابْ، و هو صحفي سابق بالقناة الفرنسية الثانية وعضو سابق في المجلس الأعلى للسمعي البصري الفرنسي تحت عنوان: * لماذا لم نعد نراك؟ (Pourqoui on ne vous voit plus) ورشيد أرحاب صحفي من أصل جزائري يحمل منذ أعوام الجنسية الفرنسية، عمل صحفيًا و مسؤولا للقسم السياسي بالقناة الفرنسية الثانية قبل أن يتم تعيينه في2007 لمدة ستة أعوام عضوا في المجلس الأعلى للسمعي البصري الفرنسي. والكِتاب يتحدث عن تجربة هذا الصحفي الذي يُعْتبر أولَ صحفي من أصْل جزائري يتبوّأُ هذا المنصب. عمل في القناة الفرنسية الثانية واحتكَّ منذ 1977 بالعديد من الشخصيات السياسية الفرنسية، من أمثال فرانسوا ميتران وجاك شيراك وغطَّى العديد من الأحداث بما فيها الأحداث الدموية التي عاشتها كاليدونيا الجديدة بين الكاناك والكالدوش عام 1986، حيث اعتبره بعض الأهالي صحفيا غير مرغوب فيه لانتمائه للجزائر وخوفا من تحيزه للجزائريين المنفيين هناك. كما يتحدث الكاتب بِاعتزاز عن تجربته الجديدة في المجلس السمعي الفرنسي و يَعْتبرها تثمينا لجهده وتقديرا لقدراته الصحفية من خلال الدور الذي يمارسه المجلس سواء في الصناعة السمعية البصرية، أو في حرية الاتصال بشقيْه السمعي والبصري، وفيما يجب أن تكون عليه المهنية في هذا القطاع الحساس. وإذا كان هذا الكتاب جديرا بالقراءة والاهتمام خصوصا بالنسبة لأصحاب القنوات الخاصة عندنا، و لِمَا يَجبُ أنْ يكونَ عليه قطاع السمعي البصري في بلادنا، فإن الكاتب الصحفي رشيد أرحاب، تَحَوَّل في بعض أجزاء الكتاب إلى الحديث عن التاريخ. و رغم تقديري للمهنية العالية لهذا الصحفي ولتجربته كعضو في المجلس الأعلى للسمعي البصري الفرنسي، حيث يشير إلى الإحراج الذي كان يعتريه بعد أن تَحوَّل من صحفي يبحث عن الخبر و يعايش الأحداث إلى نائب عام حسب وصفه يحاكم بعض زملاء مهنته عندما تقع بعض الأخطاء والتجاوزات أثناء عضويته في المجلس، فإن عيب الكاتب أنه أقحم نفسه في التاريخ بطريقة تسيء له، وهو الذي تعرض في حياته المهنية بسبب أصله الجزائري لبعض المضايقات والانتقادات العلنية من قبل بعض زملائه ومن طرف بعض السياسيين الفرنسيين، خصوصا لوبان المعروف بنظرته العدائية للمهاجرين عموما وخصوصا الجزائريين، بل إن الهمس كان يصل إلى أذني الصحفي رشيد، وهو الجزائري الأمازيغي بوصفه أنه عربي، وكأن الانتماء إلى العرب مّعَرَّةٌ و ذمِيمَة. لقد حاول الكاتب وهو يَتطفَّل على التاريخ والتجنِّي على انتمائه الجزائري أن يحصر نفسه في المنطقة التي ولد فيها، وكأن لا انتماء لأصله الجزائري إلا الانتماء للمنطقة التي شهدت ولادته !!. صحيح إن الانتماء للمنطقة التي وُلد فيها وللجبل الذي احتضن طفولته المبكرة هو شرف له من حقه، ومن حقنا أن نفتخر به، لكن الصادم للقارئ الجزائري الوطني أن رشيد عندما تحدث عن المقاومة الجزائرية حصرها في مقاومة الحاج المقراني ومنطقته دون بقية مناطق الوطن، وليته يعرف النسب الشريف للشيخ المقراني، ثم راح يُوحِي للقارئ بأن الجزائر بشمالها وجنوبها وغربها وشرقها لم تعرف أية مقاومة للمحتل إلا تلك المنطقة. فهل هو هل تعصبٌ، والتعصُّبُ فعل مُشِين و مذموم خصوصا بالنسبة لصحفي مميز مثله نقدر مواهبه وكفاءته العالية وينشد منه القارئ الموضوعية فيما يكتب، أم هو جهلٌ للتاريخ الحافل بالبطولات والأمجاد لبلده الأصلي الذي خاض 46 مقاومة شعبية شملت الوطن كله من ربوعه إلى ربوعه، وهي المقاومات التي تُقَسَّمُ حسب المختصين في التاريخ بالترتيب إلى ما يلي: 15 مقاومة في الجنوب ..حيث تعتبر مقاومات الجنوبالجزائري من أطول المقاومات، وفي مقدمتها مقاومة الناصر بن شهرة و رفيقي دربه التلي بن الأكحل التي تجاوزت ربع قرن من الزمن وامتدت إلى عدة جهات من الوطن. 12 مقاومة في الوسط، بما فيها المقاومة التي خاضها أبناء تلك الجبال الشامخة التي ينتمي لها رشيد، وقد كانت مقاومة المقراني في 1871 شاهدا كبيرا على ذلك، وقد قام البطل الناصر بن شهرة صحبة رفاقه بمقاومة بطولية في منطقة الأغواط وعدة مناطق من الوطن، ثم راح يُدعِّم المقاومة التي خاضها الشيخ المقراني وخصوصا مع شقيقه بومزراق، وهي المقاومة التي امتدت إلى منطقة وادي ريغ بالجنوبالجزائري، و كان من قادتها إلى جانب الناصر بن شهرة البطلان محمد بن عبد الله من ورقلة، وهو أصيل تلمسان، والتلي بن الأكحل من الجلفة. ثم هل أجدني أُذكِّره بمقاومة البطلة الجزائرية لالة فاطمة نسومر التي لقَّنتِ الفرنسيين أكبر الدروس في المعارك، ومن بينها تلك المعركة التي قادتها بنفسها عام 1854 وانتهت بمصرع 800 جندي من بينهم 24 ضابطا من قوات المحتل إلى جانب حوالي 400 جريح، كما هبَّت لإنقاذ المقاوم الشريف بوبغلة في معركة كان يقودها وسط البلاد، ثم هل أضيف له قصة قد لا يُصدِّقها العقل، لكننا نحن المسلمين المؤمنين بكتاب الله وسنة رسوله نصدقها، فقد روى لي أحد رجال القضاء الجزائريين المتميزين والذي تقاعد منذ سنوات، وهو ما يزال حيا يرزق و العهدة على الرواي أنه حضر في عام 1995 عملية إعادة دفن رفاة البطلة الشهيدة فاطمة، وكان ضمن الوفد المُشْرفِ على عملية إخراجها من قبرها بولاية المدية ونقلها لمقبرة العالية. وقد فوجئ أعضاء الوفد بحركة غير عادية من طرف مَنْ كانوا يقومون بعملية الحفر، حيث راحوا كَمَنْ يَفِرُّ مذعورا من موقع القبر بعد فتحه ..ولم يُهَدِّئ من روعهم إلا الراحل الكبير الأستاذ عبد الحميد مهري الذي كان حاضرا، حيث تقدم نحو القبر بخطى وئيدة ..وعندما أطل على القبر وجد البطلة لالة نسومر كماهي بشعرها الأشقر وعيونها ووجهها الصَبُوح وكأنها تبتسم ..عندها راح سي عبد الحميد رحمه الله يُكَّبِرُ و يُردد أمام الوفد الآية القرآنية الكريمة بحق الشهيد: " ولا تقولوا لمن يُقْتَلُ في سبيل الله أمواتٌ، بل أحياءٌ و لكنْ لا تَشعرون. 11 مقاومة في الشرق. 8- مقاومات في الغرب .. هذا جزء من التاريخ الذي ساهم فيه الشعب الجزائري بكل مناطقه، وأنت تعرف يا أستاذ رشيد أن الأمير عبد القادر -رحمه الله و هو من الغرب الجزائري، كان أولَ قائد يخوض المقاومة في شبابه المبكر، حيث امتدت مقاومته للعديد من جهات الوطن، وتجاوب معه الجزائريون في مختلف مناطق الوطن، ثم راح الأمير يعيد بناء الدولة الجزائرية، و قد استمرت مقاومته 17 عاما، ولم تتوقف إلا بعد تعرض الأمير للخيانة الداخلية والخارجية من بعض الجيران. والأدهى والأمرّ أن الكاتب عندما يتحدث عن ثورة أول نوفمبر الخالدة يحصرها في منطقته فقط ..فمن أين استقيت هذه المعلومات؟ هل استقيتها من كريم بلقاسم أحد أسود جرجرة والجزائر كلها الذي كان يسكنه حب الوطن برمته، أم من الراحل الكبير آيت أحمد الذي كان رئيسا للمنظمة الخاصة التي ولدت لتحرير الوطن كله قبل ثورة أول نوفمبر، وهو أحد الرئيسين المؤسسين لجبهة التحرير الوطني، وهم من أبناء المنطقة التي تريد أن تفصلها عن باقي الوطن بطرحك الضيق المتعصب هذا؟ كم أنت رائعٌ يا رشيد بصوتك التلفزيوني المميز وبحواراتك وريبورتاجاتك هناك في الضفة الأخرى من المتوسط، وكم هو رائع قلمك في أجزاء عدة من كتابك، ولكن للأسف كم كانت كتابتك عن بعض الوقائع التاريخية مزيفة ومغلوطة وباهتة، فظَهرْتَ لِمَنْ يقرؤون كتابك أنك مجرد متطفل على التاريخ أوأنك تخدم مَن يناصبُ العداء لوحدة الجزائريين. تاريخ الجزائر صَنَعه شعب لم يكن قادةُ ثورتِه يُفرقون بين شمال أو جنوب الوطن، أو بين شرقه أو غربه. ثم هل أُذكِركَ بما قاله وزير خارجية الحكومة المؤقتة وأحد المفاوضين في جبهة التحرير الوطني في اتفاقيات إيفيان الراحل سعد دحلب لرئيس الوفد الفرنسي لوي جوكس في تلك المفاوضات بشأن محاولة فرنسا فصل الصحراء الجزائرية عن الوطن الأم لكي تبقيها فرنسا تحت الاحتلال ..حيث أنه بمجرد طرح المسألة قام دحلب رحمه الله من كرسيه في لفتة جزائرية ذكية، وكأنه يَهُمُّ بالجلوس مع الوفد الفرنسي. وعندما وقع التساؤل عن هذه اللَّفْتة التهكمية بالطرح الفرنسي، قال الراحل دحلب الذي كان وزير خارجية الحكومة الجزائرية المؤقتة: أنا متجه للجلوس مع الطرف الآخر، ما داموا يعتبرونني وأنا صحراوي فرنسيا، إذ سأقرر لمن يكون مصيرُ الصحراء !! ثم هل أذكرك بما فعله الصديق الكبير الراحل سي مولود قاسم نايت بلقاسم، و هو من نفس منطقتك عندما كلّفه الوفد الجزائري المفاوض بجلب خريطةٍ للجزائر تؤكد جزائريةَ الأرض الصحراوية التي كانت فرنسا تطمح لإبقائها تحت سيطرتها، ليس حُبًّا في عيون أهل الصحراء الجزائرية و أنا جزائري منهم و لكن طمعًا في ما يزخر به باطن تلك المنطقة الغنية من الوطن. لقد ذهب سي مولود -رحمه الله- إلى العاصمة السويدية ستوكهولم، ومن هناك اتجه رأسا إلى المكتبة الملكية السويدية وطلب الموسوعة التي رُسمت فيها كل خرائط العالم بما فيها خريطة الجزائر. ثم راح ينظر يمينا ويسارا و الكاميرا وقتها لم تكن موجودة لعل أحدا يراه، و عندما تأكد أن لا عينَ تراقبه، اقتطع الورقة المتعلقة بخارطة الجزائر وأسرع لمغادرة ستوكهولم كي لا تُكتشف تلك السرقة التي وصفها بالجميلة، والتي كانت الأولى والأخيرة في حياته، كما قال لي ذلك بنفسه، ثم راح يقدمها فرحا لرئيس الوفد الجزائري المفاوض كريم بلقاسم رحمه الله، وهو الذي أفحم الوفد الفرنسي بجزائرية الصحراء عندما استظهر أمامهم تلك الخريطة. أرجو أن تقرأ تاريخ بلدك الأصلي الذي هو بحجم قارة كم نُحْسَدُ عليها، حتى تعرف أن التاريخ يُقرأ بكلياته وليس بجزئياته ..وأن المقاومات الشعبية إن لم تنجح في دحر المحتل، فلأنها لم تكن شاملة، ولهذا جاءت ثورة نوفمبر العظيمة لتوحد الشعب الجزائري وتخوض ثورة شاملة ضد المحتل ولتنتصر عليه بإرادة شعبية شاملة شملت الوطن كله ولم تنحصر في منطقة دون أخرى. جميلٌ أن تكتب يا سيد رشيد وتتحدث عن تجربتك الرائعة في التلفزيون الفرنسي وفي المجلس السمعي البصري الفرنسي لأنها فعلا ثرية، ولكني أنصحُك كزميل لك في مهنة الصحافة والكتابة أن لا تتطفل على تاريخ بلدك الأصلي حتى لو كُنتَ تحكي عن طفولتك في تلك الجبال التي جعل منها المستعمرون جحيما، مَثَلُهَا في ذلك مثل كل أنحاء الوطن. لن يُنكر إلا جاحد أنك فنان بارع في الكتابة، ولكن عندما تتطرق لتاريخ بلدك تتحول كتابتك إلى عبث بل إلى فن العبث بالتاريخ، وهي صفة تفقدك التقدير الذي تحظى به خصوصا من مشاهديك الجزائريين الذين كان بعضهم يقدر مهنيتك كصحفي .. مهما يكن تحياتي لك لأنك تكتب وتفكر، ولكن أملي أن لا تعبث بالتاريخ مرة أخرى لأنك تجهله أو تتعامى عن النطق بالحقيقة لخدمة أجندة معينة.