يكتبه كل سبت: البروفيسور رابح لونيسي يعد هيغل أول من استعمل مصطلح المجتمع المدني في القرن 19م، فبعد تحليله الدقيق للنقابات المهنية والقوى السياسية والمجتمعات المحلية التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع الألماني، توصل إلى القول بأن الجمعيات "ضرورة بشرية لا غنى عنها، وبدونها يتحول الناس إلى مجرد جمهور لا تأثير له"، وذهب إلى حد وضعه انتماء الفرد إلى جمعية من الجمعيات كشرط ضروري لاكتساب صفة المواطنة، لأن بقاء الفرد لوحده دون الالتحاق بأي جمعية أو تنظيم هو الذي سيسهل على السلطة قمعه وامتصاصه، فيضعف المجتمع أمام السلطة، فيختل التوازن داخل الدولة بين الطرفين. إن المجتمع المدني والأحزاب السياسية هي وسيلة للحفاظ على التوازن في الدولة بين السلطة والمجتمع الذي يجب أن يتهيكل في مختلف الجمعيات والأحزاب، مما يمنع ويحد السلطة أو أي حزب وصل إليها عن طريق الانتخابات من استعمال أجهزة الدولة ضد المجتمع ومصالحه. إن إضعاف المجتمع المدني والأحزاب السياسية هو إضعاف للدولة، لأن ذلك سيسمح للسلطة بالتخلي عن خدمتها للمجتمع والأمة، فينخر جسم الدولة بسبب انعدام كابح سلمي للسلطة، فتتمادى في الطغيان الموجود طبيعيا في كل سلطة، فيؤدي ذلك إلى رد فعل فوضوي من المواطنين ضد طغيانها، فتقع الدولة في فوضى وعدم الاستقرار وحتى إشعال حرب أهلية يمكن أن تكون سببا في زوالها، فقوة الدولة نابع من قوة أحزابها السياسية ومجتمعها المدني، وأن أكبر خطر يهدد الدولة هو سعي السلطة لإضعافها أو تحويلها إلى أدوات في يدها أو احتوائها. إن المهمة الرئيسية للمجتمع المدني في الديمقراطيات الغربية هو الحد من طغيان السلطة ومنعها من استخدام أجهزة الدولة ضد المجتمع، فإنه بإمكاننا إضافة وظيفة أخرى له، وتتمثل في مراقبة وفضح كل من لا يقوم بواجباته المهنية والوطنية كما يجب، فمثلا لو كنا نملك جمعيات قوية ضد الرشوة هل يتشجع أي كان أن يمد يده إلى المال العام بشكل أو بآخر؟ وقس ذلك على كل نشاطات الدولة والأمة. نعتقد أنه يمكن لمختلف الجمعيات أن تلعب دورا مهما في دفع كل مواطن مهما كان موقعه على القيام بعمله على أحسن وجه خوفا من رقابتها عليه، خاصة إذا امتلكت الحق في رفع دعوى قضائية أمام القضاء المستقل ضد أي متهاون في واجباته، وذلك بوصفها تدافع عن مصلحة المجتمع، لكن هذا الأمر يتطلب تنظيما قانونيا فعالا ودقيقا يحفظ التوازن والمصالح، فبهذا الشكل يدفع كل طرف في المجتمع الطرف الآخر إلى إتقان العمل واحترام القانون وخدمة الدولة والمجتمع بصفة مثلى، فتتطور الدولة والمجتمع بفعل تراكم الإنجازات مهما كانت بسيطة، ويشبه هذا التنظيم للدولة النظام الكوني أين نجد كل عنصر من عناصره تجذب بعضها بعضا بتوازن عجيب ودقيق، مما يحفظ سلامة الكون وعدم اختلاله. [email protected]