محاولة للفهم (12) جاء الإسلام دعوة للعالم جميعا، ومن طبيعة الرسالة العالمية أن يكون خطابها عالميا، فهي للجميع عربا وعجما، بيضا وسودا، تخاطب سكان الكرة الأرضية جميعا بل يمتدّ خطابها إلى خارج سكان الأرض، فهي بلا شك للعالمين: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ". ولن يكون الإسلام رسالة عالمية، إلا إذا حملتها أمة قوية في نظامها وعسكريتها، قوية في تماسك صفوفها وبنيانها، كثيرة أعدادها ومؤيدوها ومناصروها "هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين ". ومن أوّل يوم جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم مبشرا بأمة تحمل مسؤولية إنقاذ البشرية: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، وتمارس دور الرقابة على القيم والفضائل: " لتكونوا شهداء على الناس "، فتهيأت أمة الإسلام وخُطّ لها منهجٌ قويم في العقيدة والعبادة والسلوك والفكر والعلاقات، قائم على العدل والإنصاف، والسماحة والتعايش، والاعتدال والوسطية، والاستيعاب والتجميع، ولم يلتحق النبي صلى الله عليه وسلم بربّه حتى كان عدد المؤمنين به أزيد من مائة وعشرين ألف، كما يذكر ابن حجر في (الإصابة )، وهو عدد ضخم قياسا بأعداد السكان آنذاك وأعداد الجيوش. وتوسّعت هذه الأمة خلال ثلاثين سنة، من حكم الخلفاء الراشدين، لتصل إلى الشام وفلسطين، ومصر والعراق وبلاد فارس، وصنعت الشموخ والتفوق والتوسع، خصوصا بعد معركتي اليرموك والقادسية، كبرى معارك الإسلام ضد الروم والفرس، واستوعبت الأمة مختلف الشعوب، رغم تعدّد اللغات وتنوّع الثقافات والمشارب. وحتى مع ظهور الاختلاف، وظهور الفرق كالشيعة والخوارج والمعتزلة وغيرهم، ظلّ المنهج القائم يعدّهم جزءا من الأمة، رغم الخلاف الشديد. يقول الإمام الخطابي: " أجمع المسلمون على عدّ الخوارج مع ضلالتهم فرقة إسلامية "، ولم يكفّروا، ولم يُخرجوا من الملّة وما قوتلوا إلا دفعا لشرهم، لما ابتدؤوا هم القتال، يقول الشيخ ابن تيمية: " وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفّروا؛ مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هم أعلم منهم "- (المجموع 3/180). وصلى الصحابة وراء نجدة الحروري، وكان رأسا من رؤوس الخوارج ، كما صلوا وراء أبي عبيد، وكان متّهما بالزندقة والإلحاد، كما يقول ابن تيمية (المجموع 3 /281). وروى البخاري ومسلم في صحيحهما، لبعض المتهمين ببدعة الخوارج، أو التشيع، أو الإرجاء، وفق منهج علمي، راعى مسألة صدق الحديث وسلامة الحفظ . وظلّت الأمّة تتزواج، وتتدافن، وتتناصر أحيانا، وتُقبل شهادة بعضهم في بعض، من غير اعتبار للخلاف والتصنيف، وإن كان في بدعة، مثل بدعتي الخوارج والشيعة. أما الخلاف الفقهي بين أهل العلم والاجتهاد، فالإجماع قائم على عدّه من مساحات السّعة، كما يقول الإمام أحمد: " ولا يزال الناس يخالف بعضهم بعضا " بلا حرج. كان النبي في منهجه يحب الألفة ويكره الفرقة والخلاف، ويقبل باختلاف الصحابة، ولو في حضرته، ويكره التعمّق وكثرة الأسئلة، على طريقة بني إسرائيل في إثارة الشبهة والخلاف والعداوة. وكان لا يحب حتى مخالفة أهل الكتاب، ما لم يرد نص بذلك، قال ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به " (البخاري ومسلم ). وظلت هكذا الأمة في عصور مجدها وقوتها، إلى أن حلّ بها الضعف وتدنّت واخترعت ما اخترعه بنو إسرائيل، من أسئلة تعميق الفتن، ونشر الشر، وتفريق الصفوف، فظهر فكر " الطائفة "، مستندا إلى قراءة مبتورة لنص، مهملا عشرات بل مئات النصوص والحقائق، عن فكر الأمة المستوعب، ومركّزا على نص " ستفترق أمتي إلى ثلاثة وسبعين شعبة كلها في النار إلا واحدة ". فارتكزت طائفة على النص في قراءة تبريرية رغبوية، ترفض بها التغيير والإصلاح، وتحافظ على الوضعيات التي صنعها الاستعمار، قراءة تغطّي عوراتها المفضوحة في الركون إلى المشركين والكفرة المعتدين المحتلين للأوطان، لقمع أي صوت ينادي بالرجوع إلى الصواب. فامتلأت الساحة خصوصا من عام 1990 تاريخ أزمة الخليج الثانية؛ واستقدام القوات الأمريكية، بالكتب التي تدعو إلى طائفة واحدة ، وتحذّر من جميع المسلمين الذين صنّفوا طوائف بدع، وتحمّل هذا الدور ربيع بن هادي المدخلي وطائفته انطلاقا من المملكة العربية السعودية، وصنع بؤر في مصر والأردن واليمن والجزائر وليبيا وجميع المناطق، مستهدفا منع الأمة من التعبير عن إرادتها الحرة في اختيار الحكام وعزلهم. فالهدف الرئيسي من نشر فكر الطائفة المنصورة وتحديدها في قوم بعينهم، إدانة الحركات الإسلامية التي تنشط في مجال السياسة سلميا، وهو تعبير عن الاهتزاز في قاعدة الحكم في منطقة الخليج تحديدا وضعف الشرعية، فلم يكف فكر الاستعانة بالكفار لمحاربة المشركين من المسلمين حتى لحقه فكر الطائفة المنصور وبدعية ما سواها من الطوائف. وتمّ توظيف التراث بسطحية وسذاجة ومكر؛ للتلاعب بعقول وعواطف الشباب، وكانت أهم ثمرة من ثمرات هذا الانحراف، الذي نشأ في مخابر أنابيب المخابرات، هو ظهور داعش، التي تبنت فكر" الطائفة المنصورة "، وأضافت أنّ الطائفة المنصورة لن تكون كذلك إلا بالتوحيد والجهاد، كما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأخلطت من جديد أوراق المداخلة وسماسرة التلاعب بالفكر الديني، خصوصا بعد اهتمام كبار المثقفين والساسة الأمريكيين بالظاهرة، وتصريحهم في الكونغرس عام 2014 ، ولأول مرة، بتحميل الفكر الوهابي مسؤولية ما يحدث من إرهاب في العالم. ويستمرّ مخبر الأشرار في تصدير فكر ديني ملوّث؛ والهدف سياسي بامتياز، لكن الذي لا يدركه أمثال هؤلاء الأغبياء، أنّ الفكر المعلول وباء، وأول ضحاياه رعاته وناشروه. وأيّ فكر ينشر العداوة، ويبرّر للتأسيس لثقافة الأحقاد، هو مقدمة لفتح أبواب الشرّ، في الدماء والأموال والأعراض، يقول الإمام الشاطبي: " وكل مسألة حدثت وطرأت، فأوجبت العداوة والبغضاء، والتدابر والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمر الدّين في شيء ".