توفيق شومان/ باحث لبناني (الأمم القاتلة والمتقاتلة) مثلما اختلف القوميون العرب حول مفهوم الأمة وحتى على جغرافيتها، ثم تنازعوا حول القطرية وحدودها، فشل الإسلاميون في تحديد مفهوم الأمة، فالقرآن الكريم لم يقيّد معنى الأمة بمحدد مفهومي واحد، فمفردة الأمة في القرآن الكريم وردت عشرات المرات، وكل مفردة منها تأخذ معناها من الآية الواردة فيها، كقوله تعالى " إن إبراهيم كان أمة "، أو " ووجد عليه أمة من الناس يسقون "، أو " إن هذه أمتكم أمة واحدة "، مما عنى استصعاب التأويل وعسره في توحيد المعنى وإسقاطه على مفهوم الأمة بمعناها المعاصر، ولذلك استمسك الإسلاميون بالتاريخ، فتأرجحوا حول ما كانت عليه الدولة الأموية، ثم العباسية، وصولا إلى العثمانية، من دون الإدراك أن تلك التجارب البشرية السياسية هي وليدة العصور السياسية الإمبراطورية، مثلما كان ماضي الإمبراطوريات الرومانية أو الفارسية أو الإغريقية التي سبقت الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة، أو الإنكليزية والفرنسية التي أعقبتها. تلك إشكالية أولى في قائمة الجدران المرتفعة والفاصلة بين القوميين والإسلاميين، ناتجة بصورة أساسية عن رغبة ظنية وغير واقعية لدى الإسلاميين باستدعاء الماضي، غير مدركين أن الأفكار التي شيّدت الماضي لو كانت صالحة لإستمر الماضي واقعا ولم يتحول إلى تاريخ، كما يقول الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، في كتابه " بيموج". الإشكالية الثانية تكمن في النماذج السلبية التي استمزجها القوميون في السلطة والحكم، وعكفوا على ممارستها لعقود، إذ لم يتبوأ فريق قومي مقاليد السلطة إلا عن طريق الانقلابات العسكرية، مما جعل هواجس الانقلابات المضادة تحتل أولوية القوميين، فأفرطوا في الأمن حتى أسقطوه، فحل الرعب مكانه، وأكثر من ذلك، فإن انتشار مظاهر التدين المتطرف وانتعاش النزعات العشائرية والقبلية في الأقطار التي انتهجت النماذج القومية على أنواعها تستحق التأمل والتألم، فالنظر إلى الأوضاع الحالية في ليبيا وسوريا والعراق، وإلى حدود أقل في مصر، تستدعي مساءلة الحقبة القومية عن الحصاد المر لعقود من سلطاتها، وعن الأسباب التي أعادت إنتاج " العربي القديم "، على خلاف " العربي الجديد " الذي وعد القوميون بإنتاجه، وعلى الأغلب أن المفكر ياسين الحافظ، كان سبّاقا في الإجابة عن ذلك، في كتابه "الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة"، حين لاحظ كيفية إعادة استنبات الطائفية والعشائرية في المناهج التربوية والثقافية في "الأقطار التقدمية"، وهذا ما ينسحب على الممارسة السياسية، حيث راح قوميو السلطة إلى عقد تحالفات مع رؤوس القبائل والعشائر على ما جرت الوقائع والحقائق في ليبيا والعراق، وإذا كان ياسين الحافظ ومعه محمد حسنين هيكل ذهبا إلى تحديد ميلاد الانطلاقة الجديدة للإسلاميين بعد حرب جوان 1967 فإن نجيب محفوظ يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، إذ يرى أن الطائفية عادت بعد ثورة 1952، لأن قبطيا واحدا لم يكن من بين الضباط الأحرار، وذاك مما يخيف الأقليات، ولا يبتعد لويس عوض عن ذلك حين يتحدث عن شائعات سرت في العام 1965، "حول وجود حركة نشطة لكسب المسيحيين إلى الإسلام برعاية حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية المعروف بتدينه "، وكان الرئيس عبد الناصر قد اتهم حزب "البعث" السوري بالطائفية بعد انفصال سوريا عن "الجمهورية العربية المتحدة" في العام 1961، وأطلق العقيد معمر القذافي موقفا خطيرا بحسبما أوردت صحيفة "السفير" اللبنانية (15 8 1980)، قال فيه: "من الضلال أن يكون الإنسان عربيا ومسيحيا في الوقت نفسه، لأن دين الأمة العربية هو الإسلام، وإذا كان المسيحيون عربا أقحاحا، فعليهم أن يعتنقوا الدين الإسلامي، وإلا فإنهم سيصطفون، من وجهة نظر روحية، إلى جانب الإسرائيليين، ويمثل تعدد الأديان في قومية واحدة شذوذا، لذا فإن من الغريب ألا يكون العربي مسلما"، وفي الحوارات التلفزيونية الأربع التي أجرتها قناة "العربية" مع، رغد، ابنة الرئيس صدام حسين، إثر إسقاطه من السلطة في العام 2003، كانت تتحدث عن " عشيرتنا"، وهي الابنة التي ولدت وتربت ونمت في كنف الأمين العام لحزب "البعث" العراقي، أي والدها صدام حسين . خلاصة المعنى هنا، أن تجارب السلطات القومية العربية أسهمت في إعادة إحياء الأنماط التقليدية للمجتمعات العربية القائمة على ثنائية الفقه الديني الموروث والقبيلة الموروثة، من دون إيلاء الاهتمام لتطوير الفقه وتحديث التقاليد والعادات الاجتماعية، والدفع نحو إخراج الأجيال الجديدة من الولاءات الفرعية إلى الولاءات الجامعة، وهي السقطة التاريخية نفسها التي يمعن الإسلاميون في المراوحة عليها، إذ يعج خطابهم بأثقال الفقه المتوارث من جهة، وبإستنصار القبيلة أو العشيرة، إذا ما اقتربت الصعاب منهم أو طالتهم الأخطار، وبهذا المعنى فإن الطائفية أو العشائرية تشكلان "الولاء الاحتياطي المضمر" لدى القوميين والإسلاميين يخرجانه إلى حيز العمل والممارسة حين تعصف بهم الأقدار، أو حين يبتغون تجنيد المريدين، وهذا ما فعله الرئيس صدام حسين في العام 1991، عقب حرب تحرير الكويت، حين خط بيده على العلم العراقي عبارة "الله أكبر"، بينما العقيد معمر القذافي، خلع على نفسه صفة " إمام المسلمين " في قمة جامعة الدول العربية المنعقدة في الدوحة في العام 2009. ذاك "الاحتياط المضمر" كصفة مشتركة بين القوميين والإسلاميين، يوازيه التصور المشترك لطريقة ممارسة السلطة. وبصرف النظر عن شعار تطبيق الشريعة، فإن تصور الإسلاميين لرمز الدولة الأول، أي الرئيس، هو تصور سلطاني يقبض على زمام السلطات كافة، وينفرد بالسلطة على غرار زميله القومي، وكلاهما ينطلقان من مفاهيم رسالية، الأول لحفظ الأمة الإسلامية، أو الإمارة الإسلامية، والثاني لصون "الأمة العربية " أو تحقيق وحدتها. وأما وجه الشبه الآخر، فيكمن في انعدام القدرة على إدارة التنوع والركون إلى العقلية النزاعية والخصومية، الأمر الذي يؤدي حكما إلى شيوع العداء، فيعمد القوميون إلى " التخوين "، ويلجأ الإسلاميون إلى "التكفير "، حتى داخل أصنافهم وأجناسهم وأحزابهم، فحروب الناصريين والبعثيين لا تحتاج إلى شواهد، ونوازل البعثيين بالبعثيين، عراقيون وسوريون، غنية عن التعريف والإحاطة، وعلى المساحة الصراعية ذاتها يقف الإسلاميون، فأبو الأعلى المودودي يرى "أن المطالبة بالحكومة الإسلامية والدستور الإسلامي، تنبع من الشعور الأكيد بأن المسلم إذا لم يتبع قانون الله، كان ادعاؤه الإسلام باطلا لا معنى له"، كما يؤكد في كتابه "الحكومة الإسلامية". وفي "معالم في الطريق" يقول سيد قطب: " فالناس في كل نظام غير إسلامي يعبد بعضهم بعضا، في صورة من الصور، وفي المنهج الإسلامي وحده، يتحرر الناس جميعا من عبادة بعضهم لبعض، بعبادة الله وحده"، وفي هاتين المقولتين لا يترك المودودي وسيد قطب مساحة، ولو ضيقة، لوجود فرد مسلم، إلا إذا انخرط في التصور التأويلي لنموذج الدولة التي تخيلتها تفسيرات كل منهما. حصيلة القول، في هذا الاتجاه، إن الإسلاميين والقوميين يكابدون عيوبا في تحديد مفهوم "الأمة"، وتعتري كل طرف منهما نواقص النموذج المفترض، وعما إذا كان مثال القوميين العرب نموذج الأمة الفرنسية القائم على اللغة، أوالأمة الألمانية القائم على الجنس، أو الأمة الأمريكية القائم على قوة الدولة وأسبقيتها للأمة الجماعة، وأما "أمة الإسلاميين "، فمجهولة التحديد مطلقا وتماما، فلا هي معروفة إذا كانت تقوم على الرابطة الدينية التي تستجمع أقوام الصين والعرب والترك والأفارقة وغيرهم على الطريقة الأمبراطورية، مما يجعل المستحيل أقرب من إقامتها، ولا هي محددة بإمارة تقوم بعد انتزاع وغلبة في جغرافية أو مساحة، ولا هي تقنع خصومها بآليات تداول السلطة، لأن خروجها من السلطة عن طريق صناديق الإقتراع يطرح عليها "سؤالا شرعيا" ابتدعته فوقعت في حبائله، وهو السؤال المتعلق بالشعب ومصدرية السلطة وتطبيق الشريعة!!. من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فتح نوافذ المراجعة التاريخية لهذا الطرف أو ذاك، فالأمة، كما ذهب إلى تعريفها الفكر السياسي الأوروبي في القرن التاسع عشر، واستسنسخها المفكرون العرب، وفق معادلة الجنس والصفاء القومي، ثبتت عطالتها، وثبتت عطالة أسبقية القومية على الدولة، فالراجح في الفكر السياسي الحديث أسبقية الدولة، وهي الصانعة للأمة وليس نقيض ذلك، كما أن النماذج الأمريكية والكندية والإنكليزية والهندية والأسترالية، فضلا عن نماذج أمريكا اللاتينية، وكلها متعددة القوميات والأديان، أفلحت في بلورة مفهوم "الأمة النفعية" التي تضبط جماعاتها معادلة المصالح المشتركة وأحكام القانون. هذا المفهوم الجديد للأمة قد يعي القوميون أبعاده أكثر من الإسلاميين المدعوين إلى نقاشه بدل نبذه، كما هي تقاليدهم في نبذ كل جديد. الأمر الثاني يرتبط بحسم القوميين لمسألة الديمقراطية، فليس من الصواب أن تستبد بقناعتهم مقولات "القائد التاريخي" و "الطليعة"، وقد جرّت عليهم هذه المقولات خرابا وإخفاقا، وهذا ما يحتاجه الإسلاميون أيضا، بأن يعيدوا تأويل "الشورى" باتجاه الديمقراطية وفقا لمفاهيم تطور العقل البشري والسياسي، ومن غير أن يأخذهم الظن بأن الديموقراطية تُخرج الأمة عن دينها وملتها. الأمر الثالث يفرض على الإسلاميين مراجعة تصورهم الخاص بتجارب السياسة والسلطة التاريخية، فهي ليست نماذج طهرانية مطهرة، وأما ضرب الأمثال بالمرحلة النبوية والراشدية، فتلك تحتاج إعادتها للنبي محمد (ص) وخلفائه، وهذا الإنشداد الإسلامي للماضي السحيق، يقابله القوميون بانشداد مماثل للماضي القريب، فلا يقبلون مراجعة ولايستسيغون نقدا، فيدورون في حلقة الإستبسال المقدس والإستماتة الجهادية في الدفاع عن تجارب بشرية تحمل السلب والإيجاب في آن. الأمر الرابع، يستدعي وضع "العروبة التدخلية" في ميزان النقد، فالنماذج القومية التي سادت وحكمت طوال عقود، أعطت لنفسها سلطة التدخل في هذا القطر العربي أو ذاك، مما أوقعها في صراعات وحروب، وصاغت حيالها كراهيات غير مطلوبة، وهي حال الإسلاميين الذين انجذبوا إلى "أمة جهادية"، فتم استخدامهم في حروب الأحلاف الدولية، وتحديدا في أفغانستان، مما أدى إلى اصطباغهم بألوان العنف كافة، فخرجت من ميادينهم تنظيمات وحشية على غرار "داعش" و"القاعدة" وأخواتهما. إن السؤال المطروح بعد كل ذلك، هل يمكن إلقاء التحية بين القوميين والإسلاميين؟، ربما بالإمكان أن يحصل بين الطرفين أكثر من إلقاء التحية، لو ذهب القوميون إلى حسم القناعة بالديموقراطية، ولو ذهب الإسلاميون إلى حسم قناعتهم بالديمقراطية والهوية الوطنية، ولعل الرئيس جمال عبد الناصر أول من سعى إلى الإجابة العملية عن هذا السؤال، حين قرّر مجلس قيادة "الضباط الأحرار" إعطاء وزارتين لجماعة الإخوان المسلمين، كما يقول عبد اللطيف البغدادي في مذكراته، فعين أحمد الباقوري وزيرا للأوقاف، وأحمد حسني وزيرا للعدل، إلا أن الجماعة عارضت وطالبت بأربع وزارات، ثم عملت على فصل الباقوري من مكتب الإرشاد، فليتهم لم يعارضوا، وليتهم لم يفصلوا الباقوري.