بقلم : الأستاذ:لخضر رابحي كان الإمام مالك قريب عهد من عصر الصحابة ، وعصر التنزيل ، وعاش في المدينة مدينة التشريع والتنزيل . وأخذ العلم عن كبار المشايخ من التابعين وتابعيهم ، وهو أوّل من ألف في الحديث جمعا وتدوينا ، وكتابه ” الموطأ ” وثيقة تاريخية معتبرة في تدوين الحديث ، وكان كما روت عنه كتب التراجم مجتمعة شديدة الحب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، لا يحدّث بحديث حتى يتوضأ ، ولم يركب دابة في المدينة احتراما للتربة التي مشى عليه النبي صلى الله عليه وسلم . ومع ذلك ثبت أنه أنّه روى أحاديث وصحّحها ، وخالف العمل بها ، حتى كتب الليث بن سعد رسالة إليه، يستنكر عليه عدم العمل ب 70 حديثا . وردّ عليه ابن عبد البر ، الفقيه المالكي ، موضّحا أسباب هذا المنهج العلمي في الاجتهاد فقال : ” ليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يردّه ، دون ادّعاء نسخ ذلك بأثر مثله أو إجماع ، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه ، أو طعن في السّند ، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلا عن أن يتّخذ إماما ،ولزمه اسم الفسق ولقد عافاهم الله عزوجل من ذلك ” . وتحدّث ابن القيم عن أصول مالك فقال : ” من أصول مالك اتّباع أهل المدينة ، وإن خالف الحديث ، وسدّ الذرائع ، وإبطال الحيل ، ومراعاة المقصود ، والنيات في العقود ، واعتبار القرائن وشواهد الحال ، في الدعاوى والحكومات ، والقول بالمصالح والسياسة الشرعية ” . أخذ بعمل أهل المدينة ، فردّ به أحاديث الآذان وبعض قضايا الصوم والزكاة ، مرجّحا أنه يستحيل على أهل المدينة خفاء ذلك ، وقد توارثوا ذلك عمن سبقهم واستمر العمل به إلى عهده وهو قريب ، كتثنية الآذان دون تربيعه كما جاء في الحديث الصحيح .ولم ير صحة الصلاة على القبر ، مخالفا حديث صلاته على المرأة التي كانت تقم المسجد ، وقال لمن سأله : ” وليس العمل على ذلك “. وكره صلاة الجنازة في المسجد اعتمادا على عمل أهل المدينة ، ولم يأخذ بحديث عائشة في الباب ، في وفاة سهيل بن البيضاء، وقولها ” ما أسرع ما ينسى الناس صلى رسول الله على سهيل بن البيضاء لما توفي إلا في المسجد “. ولم يأخذ ببعض الأحاديث ترجيحا لظاهر القرآن ، كردّه حديث ولوغ الكلب بظاهر قوله تعالى ” فكلوا مما أمسكن عليكم “. كما ردّ حديث ” من مات وعليه صوم ، صام عنه وليه ” بظاهر قوله تعالى : ” وأن ليس للإنسان إلا ما سعى “. وردّ بعض الأحاديث أو قيّدها أخذا بفقه المصلحة ، أو الاستحسان أو سدّ الذرائع ، فاستثنى من الأراضي الميتة التي تُحي عملا بالحديث ” من أحيا أرضا ميتة فهي له ” الأراضي القريبة من العمران ،وما يتشاحّ الناس فيه ، عملا بالاستحسان . فالمصلحة كانت بتعبير الشيخ أبي زهرة ، مركزية في اجتهاد مالك ، سواء أظهرت باسم القياس، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ،أو سد الذرائع . ومدرسة مالك في حقيقتها ،جمعت بين أهل الرأي وأصول أهل الحديث ، وفي عصرنا اليوم محتاجون إلى إحياء هذه المناهج وتطويرها ، وتجديدها والزيادة عليها ، حتى نستوعب القضايا الملحة ، والقضايا الجديدة ، ولا نجمد باسم النصّ ، ولا ننسجن في قول واحد أو لون واحد ، فالشريعة العالمية تملك خصائص السعة والوسع والاستيعاب .