حين ننظر إلى كتاباتنا ومداولاتنا اليومية نجد أنه يسيطر عليها - إلى حد بعيد- الحديث عن التطوير والتحديث، والتخطيط للمستقبل، والاكتشاف، والتقدم نحو الأمام، وما شابه ذلك، ونحن بهذا نحاول التعويض عن الخسائر التي تسبب بها التخلف والجمود واليأس الذي خيّم على الأمة قروناً عدة، والحقيقة أن الحديث عن التقدم هو اليوم شأن عالمي؛ حتى إن بعض الكتاب الغربيين تحدثوا عما سمّوه (عبادة التقدم). ومن المهم في هذا الباب الإشارة إلى أن لفظة التقدم في الأساس هي لفظة محايدة، فالمرء قد يمضي نحو الأمام ويتقدم، ويكون متقدماً نحو جريمة، وقد يتأخر عن فعل شيء مشين، وقد يتراجع نحو الوراء، ويكون تراجعه عبارة عن توبة وتصحيح لخطأ وقع فيه، ومن هنا فإن تقدماً في اتجاه شيء من ماضينا قد ينطوي على خير كثير، وعلى ملامح نهضوية مهمة. إن الأمم وهي تمضي في دروب الازدهار تفقد شيئاً من توازنها، وتنسى بعض أصولها وأساسيات حياتها، وما ذلك إلاّ لأن وعينا بأنفسنا ومبادئنا والتوازنات التي علينا أن نرعاها لا يكون إلاّ ناقصاً، بل إن النقص يكون في بعض الأحيان مريعاً، ولعلي أضع النقاط على الحروف في بعض المسائل التي أرى أنها مهمة في هذا الشأن: 1 يُلاحظ بقوة انكماش دوائر الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن سلامة الأقرباء والمجتمع والأمة وعن صلاحهم واستقامتهم، ولو أننا عدنا إلى نحو نصف قرن من الآن لوجدنا من يتحدث بجدية عن وحدة الأمة الإسلامية أو وحدة العرب، ومن تغلي في صدره مشاعر الغيرة على عزة الأوطان وحفظ مصالحها، ولوجدنا كذلك تضامناً جيداً داخل القرى والأحياء على المستوى التربوي؛ فقد كان الجيران والأقرباء والمعارف والأصدقاء يساعدون في توجيه الأطفال وإرشادهم وملاحظة تصرفاتهم، والخيط الناظم لكل ذلك عبارة عن شعور عميق بأن مصلحة الفرد المسلم هي عين مصلحة أهله وجيرانه وبلده وأمته، فأين ذهب كل ذلك؟! إنه تبخر إلاّ ما ندر بفعل أدبيات العولمة وعملياتها الرهيبة، والتي تقوم بخلع الفرد من الأسرة، وخلع الأسرة من المجتمع، وخلع المجتمع من أمته الكبرى. التاريخ لا يعيد نفسه، وقد حدثت تغيرات كيميائية وفيزيائية، وجغرافية وأخلاقية واجتماعية... تجعل استعادة صور التضامن ومشاعر الرعاية والانتماء القديمة في حكم المستحيل، وصار مطلوباً منا أن ننشئ المزيد من المؤسسات، ونطلق الكثير من المبادرات التي تساعد على تحقيق الأهداف العظيمة التي فقدناها بأسلوب جديد. 2 كلما حصل تقدم حضاري وعمراني أوسع تفتّح وعي الناس على الحياة وعلى مصالحهم، وزادت المقارنات المختلفة بين الذات والآخر بأوسع ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وهذا أدّى إلى انغماس الناس في شؤون الدنيا وفي الهموم الشخصية، كما أدّى إلى ارتفاع حدة الجدال؛ فمجالس الناس مشحونة بالاختلاف والتنظير والنقد والحديث عن الحواسيب، والجوّالات، والميزات، والبدلات والوظائف، والتسوّق، والمهرجانات... كلام وجدال في أمور لا حصر لها، ومع أن ذلك في الأصل مشروع، وبعضه مطلوب، إلاّ أن المشكلة تكمن في (الغفلة) العامة والشاملة؛ حيث تجد أن المجلس قد يمتد الساعة والساعتين، ويكون الجالسون فيه من أهل الخير والصلاح، ثم لا تسمع فيه ذكراً لله تعالى ولا تذكّراً للموت، ولا لنعيم الجنة، أو عذاب جهنم، وهذا أيضاً على المستوى الفردي؛ فمشاغل الدنيا وهمومها ومباهجها قد خطفت منا الكثير من رقة القلوب، والكثير من يقظة العقول نحو مصيرنا بعد الموت. إن المسلم المطلوب لعيش هذا الزمان هو مسلم غير عادي في صلاحه وإقباله على الله عز وجل وفي تفوّقه ونجاحه في الحياة؛ فالزمان الصعب لا يحتاج إلى المتخصصين والأذكياء والقادة فحسب، وإنما يحتاج قبل ذلك إلى الأتقياء الأنقياء ذوي القلوب الحية والأرواح المشرقة. 3 لدينا أسر كثيرة غير مؤهَّلة لتربية أبنائها التربية الجيدة، ولدينا ألوف الشباب والفتيات الذين يعانون من مشكلات كبيرة، وهم لا يعرفون كيف يواجهونها، ولا يجدون المشير ولا المعين، ولدينا مئات الألوف من الشباب والفتيات الذين ضلّوا سواء السبيل، وهم بحاجة إلى من يساعدهم على العودة إلى الصراط السويّ، لكن ليس هناك من يهتم بهم، ويلتفت إليهم، فصاروا عبئاً على المجتمع، بل صاروا مصدر تهديد لخيريّته وأمنه وصلاحه... من لهؤلاء وأولئك إلاّ الذين اشتعلت قلوبهم بحب الله تعالى والغيرة على دينه وعلى أمة الإسلام؟! لنتقدم نحو الوراء كي نتفقد ما خسرناه عبر السنوات الأخيرة، وكي ننهل من مسيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وسير عظماء هذه الأمة ما يعيننا على التخلص من (الغفلة) التي اجتاحت عقولنا ونفوسنا، وألحقت بنا أعظم الأضرار.