ها نحن اليوم نقف على عتبة الخروج من شهر التوبة والغفران.. شهر الرحمة ونزول القرآن.. شهر الخير والبركة.. شهر التسامح والوئام.. شهر يتكرر مرة في كل عام، ولا أحد منا يملك اليقين.. هل نبقى من الأحياء لاستقباله مجددا خلال السنة القادمة أم نجد أنفسنا في عداد الموتى، و قد رحلنا إلى عالم الآخرة محملين بما عندنا من زاد الفعل وما لنا وما علينا خلال مسيرة وجودنا فوق الثرى؟.. لكن قبل ذلك وجب علينا أن نتساءل.. هل فعلا قمنا بواجبنا نحو هذا الضيف العزيز؟.. وهل فعلا قمنا بأداء ما يجب أن نقوم به من فرائض وعبادات ونوافل وصدقات تقربنا إلى الله عز وجل اقتداء بنبيه الكريم المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام عسى وان تكفر عنا ذنوبنا وتشفع لنا عند المولى وتكون حجة لنا يوم لقائه؟.. وتجعلنا هذه الالتزامات ما دمنا لم نخلق عبثا في منأى عن الدخول في دائرة الروتين القاتل الذي طغى على باقي الأيام والمناسبات المتكررة التي فقدت طعمها بسبب الكثير من الظروف التي حالت بينها وبين بقاء نخوتها وقداستها عند إنسان الألفية الجديدة، وما يكتنف هذه المرحلة من تطورات وتغيرات جذرية في البنية التحتية للمجتمع الحديث بفعل الكثير من الطوارئ والمستجدات كالعولمة المتوحشة والتقدم العلمي والتكنولوجي وما يصاحب هذا السير نحو الإيمان المادي من تقلبات في الصيغ المعيشية والنمطية والوجودية؟.. وهل مازالت ملامح هذا الحدث العظيم كما هي في السابق؟.. وهل يحافظ الذين باتت تعج بهم المساجد في الصلوات الخمس وصلاتي الجمعة والتراويح التي تشهد إقبالا من طرفهم سواء كانوا ناسكين سابقين أو لاحقين على الالتزام بالركن الثاني من الإسلام؟.. وهل فعلا أصبحنا قوما يعترف ويعطي الشرعية لما يعرف بالتوبة الموسمية والمناسباتية ونحشرها حشرا في إطار ما يسمى العادي؟. أسئلة قديمة لواقع متكرر ربما تبدو هذه الأسئلة مبتذلة وغير ذي قيمة بالنسبة لأي شخص تمر عبر شاشة عينيه هذه الأسطر، لكن واقع الحال يحتم علينا الوقوف برهة لتأمل حالنا وأحوالنا ومحاولة الغوص في اكتشاف معنى وجودنا ووجهتنا وأين نحن في خضم هذا الزخم المزركش؟.. لقد ألفت قلوبنا وتآلفت على الاستئناس بكل ما هو تقليدي والركون إلى كل ما هو جاهز.. وتحولت مناسبة بحجم شهر رمضان وما أدراك ما هذا الشهر وما يحتويه من قيم ومعان ومعجزات وفضل عظيم ورمزية دينية وتاريخية واجتماعية وحياتية.. إلى مجرد مناسبة يتنافس فيها الأفراد على التفاخر بأجود أنواع المأكولات وبأماكن السهر وما تتوفر عليه من وسائل المتعة، أو إلى التفرغ والاندفاع والتكالب مع سبق الإصرار والترصد على إيجاد اقصر الطرق للتحصيل المادي من خلال التجارة وممارستها بكل تفنن وإتقان ومكر في اختراع أحدث أساليب الغش والتدليس، أو من خلال اعتبار أيام الشهر حدثا دخيلا بين أيام السنة ويجب مواكبته على مضض واستقباله على بغض. وبالعودة إلى جوهر الأسئلة التي كنا قد ارتأينا الولوج بها في بداية ورقتنا، فإن الأمور الروحانية تبقى نسبية فقط مقارنة بما كانت عليه حالتنا ونحن نستقبل هذا الشهر وعظمته في السابق، والجميع الآن يجزم على أن الفرد تغير من الذهنية الكلاسيسكية وما تحمله من دلالات التلقائية والطيبة إلى ذهنية التخطيط والاكتفاء بالحد الأدنى من الواجب الذي أصبح حتمية وضرورية روتينية دورية لا غير، وبالتالي فقد اللب طعمه أو بالأحرى أفقدناه نحن بعدم تمسكنا الجيد بما هو خير وأبقى والارتماء في حضن ما هو شر أدنى. إقبال في رمضان وعزوف بقية الأشهر لا أدري لماذا عندما أرى جموع المصلين وهم يهرعون إلى بيوت الله لأداء فريضة الصلاة خلال شهر رمضان وكيف أن المساجد تعج بهم إلى حد التخمة والامتلاء، مما يضطر الكثير من القائمين على شؤون التسيير من أئمة وقيمين استحداث بعض الحلول الظرفية من خلال وضع السجادات على أطراف المساجد وفي أحايين أخرى بالساحات المقابلة، أتذكر مباشرة تصريحا لوزير سابق في الدولة الصهيونية لما سأله صحفي فرنسي أثناء حوار معه عن ما إذا كانت إسرائيل مقتنعة بما يقوله العرب والمسلمون بان تحرير القدس وفلسطين آت لا محال، رد عليه بتهكم واستهزاء واضحين وصادمين في ذات الوقت.. نعلم يقينا أن ذلك الأمر سيحصل لا محال، لكن ليس هؤلاء الذين نراهم اليوم، مازال عندنا وقت كثير،عندما يصبح المسلمون يندفعون إلى صلاة الصبح مثل اندفاعهم في صلاة الجمعة لحظتها يمكن أن نعتبر أن مصيرنا يتربص به الخطر ووجودنا يحدق به العدم.. حليمة تعود إلى عادتها القديمة تكثر في شهر رمضان الكريم المبادرات الخيرية سواء تتبناها مؤسسات أو مجموعات من الأفراد، حتى وان قل مؤشرها عن السابق، ويعلن الكثير من الأشخاص عن تطليقهم للموبقات والمناكر وتفرح عائلاتهم أيما فرح بترك أبنائهم وأزواجهم للمعاصي التي ألفوا اقترافها خلال أيام السنة، ويعلن الكثير أيضا عن توبتهم والالتزام بمبادئ الدين الإسلامي ويقلعون عن تدخين السجائر والحشيش ويبتعدون عن العلب الليلية ويستبدلونها بالمساجد، لكن مع حلول ظلام الليلة الأخيرة من الشهر المبارك وتناول وجبة الفطور حتى يهرع الكثير من رواد التوبة الموسمية إلى البحث عن الأماكن التي هاجروها قبل شهر ويجدون أصحاب هذه البؤر في انتظارهم، خصوصا وأنهم قاموا بإعادة تهيئة هذه الأوكار، وتبدأ ليالي المجون من جديد قبل بزوغ فجر يوم العيد وينسى ويتناسى الذين جابوا الشهر عبادة وقياما وقراءة وسماع دروس الأئمة كل شيء بمجرد تناول خمرة والاقتراب من مومس. وتبقى الأيام التي تلي عيد الفطر شاهدة على تحول جموع التائبين الموسميين من التدافع في المساجد للحصول على مكان في الصفوف الأولى إلى التدافع في مداخل الحانات والملاهي للظفر بطاولة أولى قرب الفرقة الموسيقية..ولله فيخلقه شؤون.. !