لا يختلف اثنان على تجزيئية هذا العالم، وصناعته المركبة والمعقدة، فكل المخلوقات مركبة مفتقرة إلى مركّب، كحاجة اللغة إلى تركيب الكلمات، وحاجة الكلمات والأسماء إلى الأحرف، ومن هذا الباب لا بأس في هذا المقام من التعريج على تعريف النحويين للكلم، حيث قسموه إلى اسم وفعل وحرف، حيث يقصدون بالحرف، حروف المعاني لا الحروف الأبجدية كما عُلمناه في الصغر من قبيل حروف الجر وحروف العطف وغيرها. ومما قاله النحويون عن الحرف أنه كلم دل على معنى في غيره، ومما استقروا عليه في تعريف الاسم أنه كلمة تدل على معنى في نفسها غير مقترن بزمان معين، ولا غرو في أن هذه التعاريف لها إسقاطات على أصناف الناس في شهر رمضان الكريم، حيث يصدق تقسيمهم إلى رمضانيين بالحرف ورمضانيين بالاسم. ولا نتحدث في هذا المقام عن الذين أقصوا أنفسهم أو غادروا مدرسة رمضان رفضا لها أو إنكارا لها، وإنما الحديث ينصب على أصناف الذين دخلوا مدرسة رمضان الربانية، وحال مآلهم مع انتهاء الدورة التدريبية الروحية بين موبق لنفسه أو معتق لها كما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فتجد الذي انقطع عن الطعام والشراب، وظل على انقطاعه عن فعل الخيرات في النفس والولد وفي من يستحقه من الناس، خيرا ماديا كان أو معنويا، فلم يجن من صومه إلا الجوع والعطش والحرمان، حرمان شهوات النفس، وحرمان لذة الشوق إلا الشوق من الانتهاء من هذا الأمر بأسرع الأوقات، وذلك حرمان للرقي في سلم جماليات هذا الشهر الفضيل، فهؤلاء رمضانيون بالحرف لا يملكون هوية روحية، ولا لمسة جمالية في ذواتهم، بقدر ما يصنعون الفارق، وفق ما قالت العرب قديما ''وبضدها تتمايز الأشياء''، بل يعتبر الكثيرون من هذا الصنف ممن منحوا مراتب اجتماعية أو مناصب إدارية أو أسرية سفراء سوء للجمال، أو بعبارة صريحة جريحة سفراء للقبح والتهاوي في غياهب الرسوب في الطينية والشهوات بسبب الدعة والكسل والخمول، وتلك صورة من صور القبح المشينة. وبالمقابل تجد صنفا آخر من الناس في رمضان، جاهد نفسه، وانقطع عن الموبقات والمحرمات وعن المنهي من المشروعات، وسعى في سبيل نيل مراتب الجمال بتحمل أعباء المشقة احتراما منه للجلال، فما إن تراه إلا ويذكرك بالجلال الأعظم والجمال الأعظم، تشع منه أنوار الخير، انقطع عن الفاني وهو هائمّ بوصال الباقي، فأولئك هم الرمضانيون بالاسم رسما ومعنى بعد أن تشرب هؤلاء معاني الشهر الفضيل، ونالوا بها رحمة ومغفرة وعتقا من السعير، وتلك صورة من صور الجمال الرفيعة، وآية من آيات الشوق لرضوان الله عز وجل، ولوعة من لوعات فراق هكذا فرص، وكل عام وأنتم بألف خير.