مدخل : صدرت عن دار هومة للطباعة والنشر، رواية ''الوصب المخيف'' للروائي الأديب رابح بوكريش2009 في كتاب من الحجم المتوسط يشتمل على262 صفحة، والسيد بوكريش من مواليد بلدية جيجل، انحدر من أسرة ريفية متواضعة محافظة، تلقى تعليمه الأولي في قريته، ساهمت والدته في عصاميته.. عمل أستاذا في الرياضيات وألف كتبا شبه مدرسية في هذه المادة لمستويات مختلفة من أطوار التعليم، اندمج في الميدان الإعلامي، ليستهويه الأدب فيكتب قصصا رائعة منها، عندما يعشق معالي الوزير..وزراء بين السعادة والشقاء، ومن خلال مقالاته وبحوثه ومقابلاته ساهم في إثراء الساحة الثقافية بوعي وكشف الكثير من الحقائق المغيبة، وحدثنا عن شخصيات وطنية وعالمية حديثا صريحا شيقا، وها هو ذا يدخل عالم الرواية، ونحن نسعد بتقديم باكورته الأولى إلى القراء.. 02 - عتبة العنوان: ما إن تتصفح الرواية حتى يستفزك العنوان الصادم، وتقع تحت سطوته، إذ يجعلك تنجذب إليه بعفوية وشوق وتتأمله بعد أن تشرح كلماته، تجده صيغ في تركيب وصفي {الوصب المخيف} ولفظ المخيف: وصف للوصب، والوصب خبر لمبتدأ {ضمير الغائب ..هو } ويمكن قراءة العنوان هكذا: هو الوصب المخيف.. تجد الكلمتين تتعانقان وتتكاملان وتبسطا رداءيهما على متن النص كله، ويحتفظ القارئ بالعنوان رفيقا له في رحلته القرائية من البداية إلى النهاية، إذ العنوان العتبة ينطوي على بعد رمزي دلالي عميق، ويبقى شبح الخوف مهيمنا على أشخاص الرواية يقاسمهم الهموم، وأوجاع الحياة، فالعنوان صنع النص، وهو يعمل على تهيئة القارئ وتشويقه للغوص في أغواره وتضاريسه ودروبه المتشعبة المتشابكة، فلا تكاد تخرج من أزمة حتى تلج في أخرى أكثر منها تأزما وأشد استثارة.. إذ يبقى العنوان حاضرا يرافقك كالظل في المقروء، ينير لك المسالك بوميض إيحاءاته المتفردة، انه يبقى معلق على سقف النص كما يقول النقاد، وجميل أن يرسم العنوان للقارئ تصورا أوليا على ما تضمنه المتن، فبقدر ما كانت كلمة الوصب صادمة ومستفزة فهي في ذات الوقت مثيرة وجاذبة، وهي تحيلك على قراءات جانبية لإثراء معارفك وذوقك القرائي، يقول البحتري: -يشكو إليك هواك المدنف الوصب *بواكف ينهمي طورا وينسكب-، ويقول أحمد شوقي: قام من علته الشاكي الوصب *وتلقى رائحة الدهر التعب- فالوصب هو الوجع اللازم، قال الله تعالى- ولهم عذاب واصب- أي لازم وثابت، إذ الوصب هو التعب. 03 - عتبة الغلاف: وعتبة الغلاف الخارجي وكلماته سواء على الوجه أو الخلف تحمل رسائل جديرة بالقراءة ، فعلى وجه الغلاف صورة لامرأة مقعدة نائمة على كرسي متحرك، مشهد مثير جدا للمشاعر، وفي الغلاف الخلفي، تجد كلمات انطباعية تصب في التقريظ ومدح الكاتب والإشادة بأعماله الكتابية وبما حققه في عالم الكتابة والإبداع ومن هؤلاء تجد.. أمين الزاوي يقول: ''...رابح بوكريش يكتب وفي كتابته حس البحث المستمر عن مسالك جديدة، مسالك المعلومات والأفكار التي لا تظهر للعامة، جاء من الرياضيات إلى الأدب...'' والدكتور عبد المالك مرتاض يقول: ''...كنت أسعد حين أرى رابح بوكريش يعنى بنفض غبار الإهمال عن إحدى الشخصيات الجزائرية والعربية ذات الشهرة العالمية التي هي على قيد الحياة أو التي فارقتها....'' كما تجد فقرة من متن الرواية للكاتب يقول: ''...وفجأة رأيت الطبيب المعالج، فسرت مسرعا نحوه، وقلت له كيف حال زوجتي؟ لماذا أدخلوها إلى مصلحة العناية المركزة؟ قال: يؤسفني أن أقول لك بأنها أصبحت نصف مشلولة، لم أقو على السكوت وبدأت أصرخ بصوت كصوت الرعد وأقول: يا إلهي زوجتي أصبحت مشلولة مثل عائشة....''. 04 - المتن الحكائي: إنه يبدأ سرده بالكلمات التالية :''...في غروب يوم من أيام 1959 كان الجو باردا، قليل المطر مع ضباب كثيف، كان الناس راجعين كل إلى حال سبيله، الكل يحمل فوق كاهله تعب يوم شاق ومضن، وفجأة وإذا بصوت أحد المسبلين يعلو صارخا اختبئوا إنها طائرات العدو تقصف المكان ...'' فيذكرنا بالزمان والمكان، ويضعنا في لحظات رهيبة وأجواء مكفهرة، برد وبؤس وفاقة وقصف وحشي مدمر وخراب ودماء وأشلاء..ولقد شط به التفكير بعيدا ..بعيدا، عندما رسم علامات الفزع على وجوه شخصيات الرواية، وهم يكابدون أوجاع الحياة ومعتركها، ومنحهم قوة الحضور والإفصاح عما يختلج في نفوسهم، وصنع البطل منذ نعومة أظافره طفلا يتيما ابن شهيد، إلى أن أصبح كهلا متعلما وتزوج.. 05 - ومن حيث الدلالة: ألمت الرواية إلماما شاملا بالسياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي، وبالحياة الريفية بعاداتها وتقاليدها بشكل واسع، وتناولت بالتحليل أوضاعا غاية في الأهمية، أوضاعا تتغلغل في صلب المجتمع إبان فترة الاستعمار أو بعد الاستقلال، ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:[..كان الطفل مختبئا في صندوق خشبي لحظة القفص الهمجي، وعثر عليه خائفا مذعورا، وبقي الوحيد من عائلته على قيد الحياة، تكفل به عمه، واستعمله راعيا للبقر، كان يقترب من الثكنة، وذات يوم أنزله عسكري من فوق الشجرة وأخذه إلى الثكنة، أين يجري تعذيب شباب القرية، وسلمه كيسا فيه ما لذ وطاب من الطعام، يتردد على المكان يوميا، يتلقى الجبن والشكولاطة، ويلتقي بالمجاهدين، تعرض لضرب مبرح من عمه لما اكتشف أنه يتلقى الطعام من عساكر الاستعمار، والتقى بامرأة معوقة تعزف على الناي وتبيع الحليب للعسكر وتأخذ منهم الطعام لأخوتها الأيتام، يحذرها المجاهدون من البغي لكنها لا تبالي، فتذبح وتعلق على شجرة، إثرها عاش الطفل أزمة خوف رهيبة، فيعرضه عمه على مشعوذ، وينال الشيخ الدجال نفس الجزاء، وتتزوج ابنة عمه، ويسعد بأفراح العائلة وبالرحابة في رقصتهم الجماعية، ويعيش الشعب الجزائري فرحة الاستقلال وتتحرك القرى والمداشر وترفع الأعلام وتتعالى صيحات النصر، والهتاف بحياة الجزائر، ويهتبلها فرصة فيركب الحافلة ليذهب إلى العاصمة متخليا عن رعي الأبقار، ويبحث عن عمل وبعد جهد مضني يتحقق حلمه، عاملا في المخبزة وطالبا في إحدى المدارس الحرة، التي يمنحها جهد عرقه، وتتوالى نجاحاته ويتبوأ مكانا له في الجامعة، ويعش أحداث الشغب ثم التطوع الطلابي، ليصبح مدرسا، يخطب سكينة من الدشرة ويتزوجها، ولأنها لا تنجب، طلقها ليتزوج سامية المتعلمة ويشعر بالإحباط لما تزوجت سكينة وأنجبت، وهو لم ينجب، تمرض سامية إثر صدمة وتبقى مشلولة إلى أن يتوفاها الموت ويحزن لذلك...].. 06 - ومن حيث الوصف: جعل من الرواية مشهدا حيا، يصف الشخصيات وصفا دقيقا، يعتمد ضمير المتكلم، والغائب أحيانا، كما يعتمد السرد ويوظف الحوار في بعض المواقف توظيفا جيدا، ويتوخي أسلوبا قويا يأسر القارئ ويجعله حاضرا مرافقا يعيش تسلسل الأحداث الكثيرة، ويلهث خلف تداعياتها، متفاعلا معها إلى درجة تقمص دور الأشخاص، فتخاله هو البطل، والنص فيه الكثير من الصور الجمالية والكلمات العذبة، ويتميز أسلوبه بسلاسة الانتقال العفوي من فقرة إلى أخرى في انسياب بديع.. ولإضفاء هالة من الدهشة والانبهار، ولأن نص الرواية يحتمل الشرح والسرد استعمل الوصف بذكاء كما أبنا والسرد والخطاب المباشر، وأكثر من العقد التي تجعل القارئ مشدودا إلى النص، يتشهى فعل القراءة والتأويل... 07 - ومن حيث اللغة: فهي إنشائية تمتاز بسلامة الألفاظ وانتقائها، قام بسبك تعابيره المهذبة الواصفة دون تقعر، وهي ذات وقع جرسي فلغته شفيفة، وفي المتناول. 08 - ومن حيث الشخصيات: وظف الكاتب شخصيات مركزية وأخرى استثنائية، الطفل وهو بطل القصة، العم رضوان عائشة المعاقة، الشيخ المشعوذ، أفراد الأسرة، المجاهدون، إبراهيم صاحب المخبرة، سكينة الزوجة المطلقة، سامية الزوجة الثانية التي تمرض وتموت، زينب الخ... 09 - الخلاصة: ومن حيث مقومات الرواية الناجحة سمو الهدف الذي يحدده الكاتب ويسعى إلى تحقيقه، والسيد بوكريش وفق في ذلك فقد حدد أهدافا كثيرة أبرزها الجانب التاريخي، وقد ركز على فترة من حرب التحرير، وأبرز الحياة في مختلف مظاهرها، وأسهب في وصف الحياة الاجتماعية والثقافية مشيرا إلى الفقر المدقع والتخلف والمرض والجهل وذيوع طقوس الدروشة والشعوذة وتفشي الانحراف الخلقي، أما بعد الاستقلال، فالبلاد عاشت ظروفا تشبه الفوضى في التعبير عن الفرحة العارمة، وسبب ذلك نزوح سكان الريف إلى المدن، والتخلي عن الفلاحة، وإهدار الثروة الغابية والمساهمة في التصحر، ويسلط الضوء على المشهد الثقافي والتربوي خاصة، فالتحاق أبناء الجزائر عشية الاستقلال غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم بالمدارس يعبر عن تعطش إلى العلم، ويشيد بدور المدارس الحرة، وبطل القصة كان يتيما يرعى الأبقار ما إن انبلج فجر الاستقلال حتى أصبح يعمل في العاصمة وفي ذات الوقت يتعلم وينجح، ليصير مدرسا، إن متن الرواية يمنحك مداخل متعددة، ويفسح لك مجالات لقراءات جانبية مختلفة، وهذا هو النص الحي.. بعكس النصوص الميتة التي توصد أمامك الأبواب تحاصرك... هنيئا لصديقنا الأستاذ بوكريش على هذا الإنجاز الرائع والواعد.