عندما أعادت صياغة كل الجمل واندسّت في آخر سطر من كتاب في رفّ من رفوف تلك المكتبة ، كان هو هنالك يرمقها بنظراته في صمت و اندهاش ، وكان إيقاع المطر في الخارج متسارعا ، هي كانت أضاعت مطريتها فغرقت بين هموم الحبر والحرف رعب من مطر قد يبلّلها. أخيرا ها هو دويّ الباب يعلن عن مغادرته المكان لتستعيد حرّيتها و تنعتق من السطر ومن الكتاب. جمعت دفاترها وأقلامها وهمّت بمغادرة المكان ، لكنّ الصورة كانت هنالك ملقاة على الأرض ربّما سقطت من جيب معطفه أو يكون تعمّد أن تصل إليها ، ليصفعها بها، لتذكّرها بأنّ الماضي ما زال ها هنا جاثما على لحظاتها لا يخفيه مداد الحروف أو الكلمات. من أيّ زمن جاءها هذا الرجل، وهي المسكونة بلحظات الإقلاع عن أيّ لحظة قد تلاحقها. ها هو يعود ليسلّمها بريد الحرف المنغرز طويلا في قلبها الجريح .. لم يعد المكان يسعها ولا عاد المطر في الخارج يرعبها ، هي الآن على استعداد للانقضاض على أيّ ألم. تسارعت خطاها ، ها هو أيضا في الشارع تحت المطر يرمقها بنظراته ، اتّسعت حدقة عينه لتحوي كلّ الطريق وتحاصرها لتلقي بها في لحظة ماض أليم داخل تلك المستشفى، أين كانت تلك الصغيرة التي شفعت له طويلا ممدّدة تنتظر معجزة من السماء والطبيب عاجز عن إنقاذها فإمكانات المستشفى محدودة . ترجّته لحظتها للتدخل والإقلاع بها بعيدا إلى مدينة أخرى وإمكانات أخرى وهو القادر على ذلك ، كانت مجرّد المحاولة ستغسل آثامه وتعيد له صفة الإنسان ، لكنّه كان هنالك لمجرّد تأدية واجب الزيارة بعد أن سمحت له زوجته بذلك. هل يمكن أن تكون الأبوة مجرّد اسم يحمله كائن صغير ضعيف لرجل يريد الانطلاق في هذه الحياة بلا قيود أو التزامات ، يومها فقط صرخت بأعلى صوتها ، ذكّرته بكل الألم الذي سبّبه لها ولصغيرتها ، ودون أن تشعر انقضّت عليه ترجّه ، تريد إفراغه من برده ومن صقيعه ليشعر بواجب أبوّته اتجاه الصغيرة ، ليقلق ، ليتحرّك ، لكنّه في اللحظة التي فتحت فيها الصغيرة عينيها لتراهما ، دفعها حتى سقطت أرضا ، حتى أنّه لم يشعر باستيقاظ الصغيرة التي فلتت من عينيها دمعة وهي ترى أمّها مرمية في زاوية من الغرفة منهارة تبكي. غادر هو المستشفى يومها دون أن يلتفت وراءه، وغادرت الصغيرة الدنيا دون رجعة .. أيّ وابل من المطر هذا الذي يغرقها، يجعلها نقطة تتلاشى في الأفق؟